مكعب ثلج… وطعنة البارحة

قصة قصيرة

خلف صمت أبدي عميق وترسانة من الذكريات، يجلس هناك على سريره يفكر في أحداث البارحة، هل ما حدث حقيقة؟ أم هو مجرد تراهات من الهلوسة التي أضحت تأتيه مؤخرا؟
كل تفسيراته التي تحدث الآن كانت غير كافية، لا يتذكر شيئا، مجرد سكين ملطخ بالدماء وصرخة رجل وحلم يكاد يكون كابوسا، كأن ليلة البارحة كانت وقتا فارغا من الزمن، يأمل ذلك فقط.
هل حقا قتل ذلك الرجل؟ ولماذا؟ تذكر أنهما كانا يتشاجران حول موضوع ما، موضوع غبي، لم يكن من داع لطعن ذلك الرجل، لكنه فعل ذلك، وربما أحب طعنه أيضا.
تذكر تقلصات ألم على وجه الرجل، وأحس بحزن شديد بعد وضع السكين في جسده، مشاعر لم يشعر بها من قبل، مشاعر كآبة وبؤس ملتصقة بابتسامة غامضة على وجهه السبعيني؛ نعم إنه في السبعين من العمر، ممدد على سريره، يفكر في جريمة ربما اقترفها الليلة الفائتة.
ألجم لسانه لأنه لم يعد قادرا على الحديث مع عقله وتفسير أحداث أمس، كل ما كان يدور في باله هو حضور جسده غير الموجود بجانب جزئه العقلي. نظر بارتياب إلى نفسه في المرآة التي بجانب السرير كأنه يحاول تعريف نفسه من جديد، هل هذا أنا؟ ربما لا، لقد كنت “أنا” معه “هو”، كنت “أنا” مع جثته “هو”.

طيلة هذا اليوم، وهو يحاول استعادة رباطة جأشه، لكن دون فائدة تذكر.
قتل صديقه العزيز، وهي حقيقة توصل إليها الآن، لا زالت الجثة في صندوق سيارته، موديل ميرسيدس 92، التي يمتلكها منذ سنة 1998، لكنه لم يكن يتصور يوما أنها ستحتوي أسوأ كوابيسه؛ جثة صديقه.
مرر أصابعه على شعره، لا زالت هناك بعض قطرات الدم الجافة الملتصقة بجذور شعره الأبيض، زوجته تخبره طيلة الوقت أنه يشبه كثيرا الممثل كريستوفر بلامر، لكنه دائما ما يكره هذا الادعاء، لأنه يظن أنه أكثر وسامة.
بعد وهلة قصيرة، شعر برعب مدوٍّ يسري في أعضائه، هل هذا ما يسمى بالندم؟ سأل نفسه، لم يرد أن ينزل إلى السيارة وينظر إلى جثة صديقه من جديد. إنه مشهد مروع؛ لا يجب أن تبقى الجثة هناك، اقترب من النافذة ونظر إلى حديقة الفيلا، أغمض عينيه، تمايل قليلا، يفعل ذلك عندما يفكر بعمق، تبادل مع نفسه مناقشة محتدمة، ثم قرر شيئا، أن يشرب القهوة في المطبخ، وعندما يخيم الليل، تكون الجثة قد اختفت.

لم يقدر في حياته أن يقدم تعريفا للحب، لكنه حاول ذلك، الحب عنده هو الشعور الذي يحسه اتجاه سيارته، لقد أحب سيارته أكثر من زوجته، لم يشعر بأي عار اتجاه هذا الموضوع. عندما كانا يتشاجران، كان يمكث داخل السيارة طيلة الليلة، يتحدث معها، كأنها طبيب نفسي، يسمع أصوات الكائنات عندما تكون نوافذ السيارة مفتوحة، مواء قط، حفيف الشجر، صراخ زوجته وهي تخبره أن يعود للمنزل، صوت أغاني المذياع، أغاني الفيس بريسلي ولويس امسترونغ ودولي بارتون، فرقعة أصابعه عندما يشعر بالملل، صوت تحاوره مع الصمت، صوت إحباطه، صوت أصدقائه المزيفين، صوت الصداقات العابرة، صوت جثة صديقه.

كانت السماء قد أظلمت الآن، شرب القهوة بهدوء وهو ينظر إلى الحديقة عبر الزجاج، حائرا نوعا ما، لم يرد أن يخرب جمالية الحديقة الخضراء، لقد دفع ثمنا باهظا مقابل العناية بها، ولم يكن يتطلع لتخريبها عبر جثة واحدة. ابتسم ابتسامة عريضة، لم تكن عريضة جدا، ربما ابتسامة العلاقات العامة، الابتسامة التي نقوم بها مع الناس المزيفين، لنقوم بتزييف أنفسنا أيضا. ونظر إلى قهوته، كانت مظلمة مثل السماء هذه الليلة، فكر أن اليوم يوم غريب الأطوار، خصوصا وأنه يتواجد داخل مطبخه الملتمع والواسع، وأننا في بعض الأحيان نشعر بالضيق في أوسع الأماكن. أخرج مكعبات الثلج من الثلاجة العريضة، ووضع مكعبا على جبينه المنكمش والمجعد، مكعبات الثلج دائما ما تؤدي به إلى أغرب الأفكار، حيث كانت هي السبب في فكرة أولى رواياته، وهي الرواية التي كتبها منذ ثلاثين عاما، حول مكعب ثلج يتحدث مع امرأة وهي تحاول تجاوز خيانة زوجها لها، كان دائما جيدا في كتابة الشخصيات النسائية، ربما كان السبب هو كراهيته لزوجته، فأراد إبداع شخصيات أفضل منها. عضلات كتفه متوترة، فهذه المرة الأولى التي سيحفر فيها قبرا في الواقع، فقد حفر قبورا عديدة في رواياته، للعديد من شخصياته، لكنها كانت قبورا سردية خيالية، لم تكن واقعية إلا في سياق الرواية، أما الآن فالقبر سيكون حقيقيا بشكل مرعب.

يأخذه احتساء القهوة في الليل إلى منحى تصاعدي في التفكير السلبي حول عدة مواضيع، يحاول تذكر عن ماذا كان يتحدثان هو وصديقه البارحة، أحس شعورا بعدم الراحة اتجاه الأمر كله، تمنى لو لم يأتي صديقه لزيارته من أول الأمر، دائما ما يكره تلك الزيارات الفجائية للأشخاص، لا يتصلون أبدا قبل الزيارة، حتى تلحظهم أمام شرفة منزلك، وهم يقومون بإيماءات غبية بأيديهم ولا يجلبون أية هدية تذكر.

صورة تعبيرية

ظل هادئا لبعض الوقت ولم يفكر في شيء، كان ضوء المطبخ ساطعا بحدة على وجهه، شعر كأنه أمام استجواب داخل مخفر شرطة، ولعله سيكون كذلك بعد أيام، كان يعرف ذلك جيدا، هو ليس مجرما محترفا، لم يقتل أي شخص من قبل، سيعرفون أنه القاتل بالطبع، على الأقل سيكون بريئا لبعض الوقت. أخذ يعد المحامين الذين يعرفهم، يعرف فقط ثلاثة، واحد منهم كان صديقه الذي طعنه الليلة الفائتة، كان محاميا متمرسا.

نظر إلى مكعبات الثلج من جديد، دائما ما يربكه هذا الشكل الهندسي المتميز، شكل مكعب، العديد من المربعات في قالب واحد، لم يكتب شيئا منذ وقت طويل، ألم فظيع يسبح داخل عقله المبدع، جاعلا منه غير قادر على كتابة أي شيء، ودائما ما كانت روايته الأولى هي المفضلة، على الرغم من أنه أبدع 12 رواية في حياته، لا زالت الرواية الأولى حول مكعب الثلج والمرأة التي خانها زوجها كتابه الأعز إلى قلبه، لم يفهم لماذا، ربما لأنه كتب الرواية في زمن كان فيه سعيدا، لم يكن يحس فيه بأية أحاسيس كريهة، ارتسمت على وجهه علامات حزن شديدة، حيث بدأت مكعبات الثلج تذوب.

اقترب من المكعبات، وبقي واقفا دون حراك ينظر إليها، بدأ يعد كم واحدة هناك في العلبة البلاستيكية البيضاء، وجد هناك أربعة عشر مكعبا، ولكنه لاحظ وجود مكعب مكتمل جميل الهيئة في الوسط، شعر أنه ينظر إليه، كأنه يقول أرجوك أدخلني إلى الثلاجة لأعيش، تساءل مع نفسه، هل سيقتل المكعبات أيضا، أم أن القتل هذا الأسبوع سيكون من نصيب صديقه فقط.

سمع بعض الأصوات الخافتة قادمة من المكعبات.
اقترب قليلا، الأصوات آتية من المكعب الجميل الهيئة.
تبدو كصرخات استعطاف.
“أدخلني إلى الثلاجة! أرجوك!!! لا أريد أن أموت”، تساءل مع نفسه : هل حقا أسمع صوت مكعب ثلج؟
حاول التحدث إلى المكعب، همس إليه بصوت هادئ :
– لماذا لا تريد الموت؟
رد المكعب خائفا ولكن في نفس الآن واثقا من نفسه:
– لأنني أحب العيش في الثلاجة، إنها مكاني المفضل.
– كيف تعرف أنها مكانك المفضل؟ أنت لم تزر أي مكان آخر، ليس لك الحق في عملية المقارنة.

بقيا ينظران إلى بعضهما البعض، كصديقين لم يلتقيا منذ زمن طويل، ونسيا أنهما كانا عدوين، فالزمن ينسينا عديد الأشياء.

ضحك قليلا، ربما المرة الأولى منذ شهور، لعلها الضحكة رقم 22 في حياته، طيلة سبعين سنة، لم يضحك سوى إحدى وعشرين مرة، دائما ما يقوم بحساب عدد الضحكات، فكر في نفسه أنه عدد ضئيل جدا، ولكنه لا يرى السعادة في عدد الضحكات، في بعض الأحيان كان يبتسم ويضحك داخل قلبه لكنه لم يسمح للآخرين برؤية ذلك، يسميها بالزوبعة القلبية، تحدث داخله، وتتحطم داخله أيضا.

حملق في المكعب، بدأ بالذوبان، لاحظ أن المكعب يبكي، قطرات من الماء تهبط من على جوانبه، شعر بالحزن من أجله، لكنه لم يرغب أن يضعه في الثلاجة؛ مشاعر متناقضة.

سأله المكعب:
– أعتقد أن البشر يبدون أجمل عندما يكونون ميتين، هل تعتقد ذلك أيضا؟
رد عليه:
– هل تلمح إلى… صديقي ؟
قال المكعب:
– لقد سمعتك تطعنه البارحة، كان يصرخ كثيرا، لقد أيقظني من النوم، لكنني أحب أن أرى جثته، لم أرى جثة بشرية من قبل.
– وهل رأيت جثة من نوع آخر؟
– نعم، شاهدت مكعب ثلج يذوب قبل قليل، انظر إليه، لقد أصبح قطرات من المياه، لم يعد صالحا لأي شيء.
نظر العجوز إلى المكعب الذائب، فقط قطرات من الماء، لا تعني شيئا، مشهد حزين.
سأل العجوز المكعب :
– هل تريد أن ترى صديقي؟ إنه في صندوق سيارتي، ستكون المرة الأولى التي سترى فيها جثة بشرية.
– حقا؟ لنذهب الآن.

وضع العجوز المكعب في كيس بلاستيكي أصفر، وانطلقا نحو السيارة، أخرج المفتاح من جيب سرواله، وفتح الصندوق.
قال العجوز :
– للإجابة على سؤالك، لا، لا أعتقد ذلك، أظن أن البشر يبدون مقززين وهم جثث، انظر إليه، يبدو مقززا.

صديقه المحامي ذو الستين عاما، ميت داخل الصندوق، دماء في كل مكان، كان حقا مشهدا مقززا.
رد المكعب بتعجب:
– يبدو جميلا ومقززا في آن واحد، لعل الجمال موجود في كل شيء، حتى في الموت، لماذا قتلته بالضبط؟
رد العجوز بنبرة هادئة :
– أخبرني الحقير أن نهاية روايتي الأولى سيئة، وأنه علي تغييرها.
قال المكعب :
– ماذا كانت النهاية ؟
– بعد أن خانها زوجها، وتحدثت مع المكعب حول الأمر، أخبرها أن تحاول قتله، لكنها لم تفعل ذلك، حاولت تجاوز الأمر دون قتل.
– ماذا حدث للمكعب في النهاية؟
– ذاب بسبب الحرارة لأن أحداث الرواية في شهر غشت، حزنت المرأة ولكنها وضعته في قنينة زجاجية ووضعته من جديد في الثلاجة، لكنه لم يعد يتحدث من جديد، لم يعد كما كان، حتى شكل المكعب تغير، لم يعد مكعبا، ولكنها احتفظت به، كان صديقا لها، ساعدها على تجاوز محنتها العاطفية.
– أظن أن النهاية ممتازة، رغم أنني لم أقرأ روايتك.
– شكرا لك.
– ما الذي ستفعله بي؟
– هل تريد أن تعود إلى الثلاجة؟ لقد قلت أنها مكانك المفضل.

مكعبات ثلج في مرحلة ذوبان

نظر المكعب إلى الجثة، نظر إلى الدماء، نظر إلى النجوم البراقة التي تتحدث عبر جمالها في هذه الليلة الصامتة، لم يشعر بهذه الأحاسيس من قبل، كان جامدا طيلة الوقت، رأى العجوز ينتظر قراره النهائي، لم يعرف المكعب ماذا سيفعل، نظر إلى قطرات جسده تلتصق مع الكيس البلاستيكي، بدأ يفقد ذاته، يفقد هويته، يفقد جموده، ثم تحول إلى قطرات من الماء، لم يعد مكعبا، لم يعد ذلك الشكل الهندسي المتميز، أصبح ماءً فحسب، حاول التحدث لكنه لم يستطع ذلك، حاول الرؤية من خلال الكيس لكن الرؤية كانت ضبابية، أغلق عينيه، وذرف بعض الدموع التي اختلطت مع قطرات جسده، لم يستطع تمييزهما، لم يستطع تمييز حزنه الآن، حاول فتح عينيه من جديد، لكنه فقد القدرة على الرؤية، كل شيء ظلامي الآن.

نظر العجوز إلى داخل الكيس البلاستيكي، نظر إلى الماء، فكّر أنه قد يكون مفيدا في غسل الدماء المتواجدة على جثة صديقه.
أفرغ الماء على الجثة.
لكن الماء لم يكن كافيا لغسل كل تلك الدماء.
لم يكن كافيا.
لم يكن كافيا إطلاقا.

مكعب ثلج… وطعنة البارحة

Exit mobile version