مقدمة حول التعاون اللامركزي للجماعات الترابية

الشراكة والتعاون العموميين

بالنظر للأهمية القصوى التي يكتسبها الدور المتميز الذي أصبحت تقوم به الجماعات الترابية في محيطها الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، فقد أصبحت مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى ممارسة مهام بالغة الأهمية في سياق أكثر تعقيدا مما يطرح أمامها إشكالية الحكامة والتدبير الجيد، وقد أصبح من الضروري التفكير في تنظيم وتطوير الهياكل الأساسية لعمل الإدارة الجماعية من أجل تمكينها من الوفاء بالتزاماتها الدستورية.

وستكون هذه المشاركة مناسبة لتقييم الحصيلة الأولية للعمل بالقوانين التنظيمية المؤطرة لعمل الجماعات الترابية، وتقتضي منا هذه الدراسة الإشارة إلى الجوانب الإيجابية والاختلالات التي تعتري هذه النصوص، لنخلص في الأخير إلى طرح بعض الأفكار التي من شأنها تعزيز المسار الديمقراطي لبلادنا وتقديم المقترحات والتصورات المناسبة لكي تصبح الجماعات الترابية مؤهلة للقيام بكافة التدخلات في إطار تعاقدي حقيقي بينها وبين الدولة.

لأجل ذلك، تسعى هذه المشاركة إلى بسط الخطوط العريضة لتدبير آليات التعاون والشراكة كما هي مقررة في القوانين التنظيمية للجماعات الترابية بالإضافة إلى وصف الأشكال المؤسساتية الأخرى للشراكة المسماة مجموعة الجماعات الترابية، مؤسسات التعاون بين الجماعات مجموعة العمالات والأقاليم ومجموعة الجهات أو تلك المتعلقة بالتعاون بين الجماعات الترابية، مجموعة الجماعات الترابية والقطاع الخاص والتي يتم بموجبها إحداث شركات التنمية لذلك فإن الحاجة تدعو إلى تعميق النقاش حول المقتضيات المتعلقة بالتعاون والشراكة من أجل تمكين الجماعات أن تؤلف فيما بينها أو مع مجموعات أخرى أي شكل من أشكال التعاون والتشارك اعتمادا على مبدأي التعاون والتضامن.
وقد أصبحت الجماعات الترابية بفضل هذه القوانين محط اهتمام مختلف الفاعلين في الحقل التنموي وذلك بفعل الاختصاصات الواسعة التي همت مختلف الميادين وأصبحت بذلك شریکا للإدارة المركزية في تنزيل المقتضيات القانونية الجديدة وفاعلا لربح رهان التنمية، وبفضل هذه القوانين تبوأت الجماعات الترابية مركزا متقدما في صنع القرار المحلي.

الجماعات-الترابية
صورة شعار المديرية العامة للجماعات الترابية

فالتعاون والتشارك مع الإدارات والمؤسسات أصبحا ضرورتين ملحتين خصوصا إذا ما تما في إطار مقاربة تشاركية ورؤية موحدة للمجال الترابي عن طريق آليات التشخيص الترابي التشاركي حيث إن ممارسة الجماعات الترابية لاختصاصاتها بشكل كامل تصطدم بعدة عقبات لعل أهمها ضعف التأطير الإداري والتقني وقلة الإمكانيات المالية، مما يتطلب في نظرنا تدخلا سريعا من أجل مساعدة هذه الجماعات قصد تفعيل آليات التعاون والشراكة لإنجاح التجربة الجديدة للامركزية.

وتقتضي الظرفية الراهنة والتحولات التي تعرفها بلادنا وكذا التحديات المنتظرة لربح رهان التنمية المستدامة تعزيز نظام اللاتركيز أسوة باللامركزية من أجل إحداث تكامل وتعاون بين النظامين بغية إقامة حوار مباشر بين الجماعات الترابية والدولة ومصالحها اللاممركزة وإحداث توازن وتماسك وترابط بين الجهازين على الصعيد الترابي.
لتعريف التعاون اللامركزي ينبغي أن ننطلق بداية من تعريف أولي لمفهوم اللامركزية وللجماعات الترابية ثانيا، حتى نتمكن من تحديد المجال الذي ينصب فيه هذا النوع من التعاون.
فاللامركزية هي شكل من أشكال التنظيم الإداري يخول فيه المشرع لمجموعة من الوحدات والهيئات الشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي لتحقيق أهداف الصالح العام. وهي نوعان لامركزية مرفقية أو مصلحية والتي يصطلح عليها بالمؤسسات العمومية، ولامركزية ترابية تندرج في إطارها الجماعات الترابية وهيئاتها وهذا الذي يهمنا بالدرجة الأولى.

ويقصد بالجماعات الترابية حسب دستور 2011 الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات وهي أشخاص اعتبارية خاضعة للقانون العام، تدبر أمورها بكيفية ديمقراطية.
أما عن مصطلح التعاون فنعني به وسيلة للتعاضد والتلاحم بين طرفين أو أكثر لتحقيق أهداف مشتركة؛ إنه نوع من التضامن والتشارك الذي يمكن من تجاوز سلبيات العمل المنفرد ويمكن من تحقيق الأهداف المرجوة بأقل تكلفة ممكنة.
ولكي نتمكن من الحديث عن التعاون اللامركزي، فلابد من توافر مجموعة من الشروط:

  • مادام التعاون يفرض بداهة وجود طرفين أو مجموعة من الأطراف في المعادلة، فإنه من الضروري أن يكون متعلقا بجماعات ترابية أو ما يمت إليها بصلة أو ما يندرج في إطارها من هيئات وفاعلين محليين، لكن تحت إمرة وسلطة الجماعات الترابية التي تظل المسؤول المباشر عن كل هذه العلاقات.
  • لابد من توفر صفة العمومية في هذه الجماعات مما يمكننا من إقصاء التجمعات ذات الطبيعة الخاصة.
  • ثم أن تكون هذه الجماعات وحدات ترابية وليس مصلحية وأن تكون متمتعة بالشخصية المعنوية وما يترتب عنها من قيام هيئات منتخبة بتمثيل المواطنين، مما يقتضي أيضا إقصاء الوحدات المحلية الممثلة للسلطة المركزية في إطار اللاتركيز الإداري.

ويستوي هنا أن يجمع هذا التعاون بين جماعتين كحد أدنى أو أكثر من جماعتين، مادام لا يمكننا الحديث عن تعاون بطرف واحد ولأن التعاون في آخر المطاف ما هو إلا شكل من أشكال التعاقد والاتفاق بين طرفين أو أكثر لإنجاز هدف أو أهداف مشتركة، وهذا يحيلنا إلى تعريف التعاون اللامركزي كما يلي:
إنه يشمل التزاما بين طرفين أو أكثر لإنجاز أعمال محددة تمم جماعات ترابية معينة، وهو ما يميزه عن أشكال التبادل كالتوأمة والمساعدات الإنسانية وغيرها من أشكال المبادلات الرمزية والتضامنية التي يمكن أن تنشأ بين جماعات ترابية في دول مختلفة ولذلك عادة ما يشار إلى الظاهرة باتفاقيات التعاون اللامركزي.

وبإلقاء الضوء على التطور التاريخي للتعاون اللامركزي، يمكن القول إن العلاقات الأولى التي جمعت جماعات ترابية لدول مختلفة كانت مرتبطة بموضوع السلم والتعايش سواء بين شعوب الدول الأعداء خلال الحرب العالمية الثانية أو بين شعوب المعسكرين الشرقي والغربي خلال الحرب الباردة. أما في مرحلة ما بعد الاستقلال والتحرر عبر العالم، فإن الجماعات الترابية لدول الشمال خاصة الأوروبية منها ستتجه نحو نظيرها في الجنوب من منظور تضامني وخيري، هذا التصور سيفتح المجال أمام اتفاقيات التوأمة، والتي سيتم توسيع إطارها للاستجابة لحاجات المساعدة والإعانة للجماعات الترابية للدول المختلفة. ويأخذ التعاون هنا معنى المساعدة العمومية للتنمية من أجل الإعلام الاقتصادي للدول النامية وهذا لا يهم موضوعنا. ويمكن للتعاون اللامركزي أن يضم التعاون الجماعي والتعاون بين الجهوي اللذان يعتبران شکلا من أشكاله. ويمكن أن يضم أيضا التعاون الحدودي يعني بين دولتين متجاورتين أو غيرها.

اتفاقية-توأمة-تجمع-طنجة-المغربية-و-فال-باراييسو-الشيلية
صورة لاتفاقية توأمة- تجمع طنجة المغربية وفال باراييسو الشيلية منذ سنة 2014

والتوأمة هي الشكل الأول للتعاون بين المدن في العالم وقد تطورت بصورة ملحوظة في السنين الأخيرة التي تتجاوز بذلك الزيارات الرمزية وزيارات البروتوكول. والتوأمة هي طريقة للتعاون بين المدن ذات قيمة خاصة فيما يتعلق بالاتصال بين مدينة وأخرى، ليس فقط بين المنتخبين المحليين ولكن بين الشعوب. وهي تعرف أيضا بأنها عادة أو عرف يرتكز على إعلان توأمة مدن واقعة في بلدان مختلفة بهدف تحقيق التعاون في جميع الميادين. وتمر عبر عدة مراحل ولكي تصبح قائمة بصفة قانونية لا بد من احترام بعض الشروط كاحترام إرادة الأطراف المشاركة واحترام المبادئ التي تقوم عليها.

وأولى هذه المبادئ نجد مبدأ التضامن الذي يسعى لإعطاء الأولوية للجماعات غير المحظوظة ولحامة المشاكل المستمرة للبلدان النامية، فهي بهذا المعنى فرصة للتنمية والتطور المتبادل ومورد ومصدر للإغناء المتبادل. كما تقوم التوأمة كذلك على مبدأ عدم التدخل في شؤون المدن الأخرى وأيضا عدم التمييز أي المساواة القانونية بين المدن، يضاف إلى ذلك مبدأ الثقافة أو ترابط الشعوب ومبدأ الثنائية اللغوية أو الترابية المزدوجة.

إن التعاون اللامركزي هو آلية من آليات تدبير الشأن الترابي ومواجهة حاجيات التنمية المحلية بمفهومها الواسع لدى أطراف التعاون والبحث عن تدبير أفضل للمشاكل المحلية والمشتركة، وهو بذلك يتعلق بمجالات حد متنوعة كالتدبير المشترك للأموال والخدمات التعاون الحدودي لتدبير المشاكل المشتركة والتعاون بين الجهوي وليس فقط أعمال التنمية كما يتصوره المفهوم الأوروبي.
وبجانب التعاون اللامركزي المنفتح على فاعلين ترابيين أجانب، نجد أيضا تعاونا داخليا بين الجماعات الترابية وغيرها من الأشخاص العامة أو الخاصة والذي تسعى من خلاله إلى تجميع الجهود والإمكانات محامة حاجيات المواطنين وإنجاز المشاريع التنموية المختلفة


إن حجم وتنوع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تحملها الدولة في إطار تأهيل التجمعات الحضرية وتوزيع الموارد في الأوساط القروية والحد من البطالة والإقصاء الاجتماعي وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة والإكراهات المتعلقة بالمجال البيئي، الذي أصبح يخضع لمعايير ومقاييس جديدة نتيجة تطور وتنامي حاجيات السكان وما يفرضه قطاع النقل أيضا من أعباء وما يستتبع ذلك من استثمارات ضخمة تتحملها الجماعات الترابية، كل ذلك فرض على هذه الأخيرة أن تستعين في إطار تشاركي وتشاوري مؤهلات وإمكانات وخيرة المؤسسات العمومية والشركات والمجتمع المدني للبحث عن حلول مناسبة لهذه الإكراهات.

وفي هذا السياق يبدو اللجوء إلى الشراكة والتعاون العموميين وسيلة ناجعة ومتميزة لإنجاز المشاريع الخاصة بالتجهيزات والبنيات الأساسية. إن برامج التأهيل الحضري الذي تعرفه عدة جماعات ترابية حاليا، يتم تنفيذها في إطار شراكة مع عدة قطاعات عمومية ومما لا شك فيه أن هذا النوع من الشراكة سوف يعرف تطورا كبيرا ومتزايدا، لما يوفره من قدرة على تعبئة وضم موارد مشتركة لإنجاز مشاريع محلية وتمويل برامج اجتماعية واقتصادية تندرج في إطار المخططات المحلية والبرامج الوطنية للتنمية. كما تعتبر الشراكة بين القطاعين العام والخاص وسيلة مهمة لتقليص تدخلات الجماعات الترابية وتخفيف عبئ تكاليف إنجاز المشاريع الكبرى.

مقدمة حول التعاون اللامركزي للجماعات الترابية

فاطمة الزهراء مديون

باحثة في العلوم السياسية و التواصل السياسي و القانون العام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *