تحليل الحزب الثاني لسورة البقرة من منظور فقه اللغة

تشريح لغوي لبعض آيات السورة الكريمة

قال صاحب الإعجاز البلاغي : “هذه السورة مترامية أطرافها، وأساليبها ذات أفنان، قد تجمعت من وشائج أغراض السور، ما كان مصداقا لتلقيها فسطاط القرآن، ولا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسبان، وعلى الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لها من تفسيرها، ولكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها، وقد حيكت بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام، وسدى متينا من فصاحة الكلمات.

وكان أسلوبها أحسن ما يأتى عليه، أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية، ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين، قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهير النفوس، وقسم يبين شرائح هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم .

قال الإمام أحمد : حدثنا معتمر عن أبيه عن رجل عن أبيه عن معقل بن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “البقرة سنام القرآن وذروته، فوصلت بها، أو فوصلت بسورة البقرة” وأيضا “لكل شىء سنام ، وإنما سنام القرآن البقرة ، وفيها آية هي سيدة آي القرآن : آية الكرسي“.
وقال عنها صاحب الإعجاز البلاغي “هي السورة التي تعنى بجانب التشريع”.

المستوى الصوتي:

 التكرير: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون}.
 وظيفته: التوبيخ والتقرير لبيان أن جريمتهم بلغت الغاية القصوى في القبح والشناعة.

 التقابل: {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وأولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}.
 وظيفته: مواجهة صورتين، الأولى تمثل لمصير الكفار والثانية تجسد مصير المؤمنين، فضلا عن التوازي الصرفي والنحوي الذي تخلل الجملة بهدف إقناع المتلقي أن الكفار طريقهم بيِّن، والمؤمنون كذلك .

 طباق الإيجاب: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}.
 وظيفته: بيان تلاعب الكفار بكتاب الله، فيؤمنون بما آثروه ويستبعدون ما لا يخدم مراميهم.

 طباق السلب: {وما كفر سليمان، ولكن الشياطين كفروا}.
 وظيفته: جاء عزوجل بهذا الطباق كي يواجه بين سليمان و الشياطين ، واستهل الحديث بسليمان بغية بيان مكانته و على الرغم من ذلك لم يكفر، وجاء في مقام يليه الكفار الذين لم يتخذونه نموذجا لإيمان .
{ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم}.
 بيان حدة مضرة الكفار بأنفسهم، وسيرهم نحو الأذى وعدم الاهتمام بما هو نافع وصالح لهم، وقد قدم عزوجل المضرة عن المنفعة لبيان أن الضرر الذي يلحقونه بالآخر يلحقونه بأنفسهم أولا .

المستوى الصرفي

 المبني للمجهول: {و إذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا أنؤمن بما أنزل علينا ويكفرون ما وراءه}.
 وظيفته: إن إقناع الكفار مر بسيرورة زمنية بين الماضي والمضارع والأمر. كما يخاطب الله في جل كتابه بضمير “نا”، وقد كان من الممكن أن يقول في هذه الآية كذلك “وإذا قلنا لهم آمنوا…” ، لكنه آثر في هذا المضمار استبعاد ذاته ومخاطبتهم بها في الحاضر لكي يبين للمتلقي أن وسائل وسبل إقناع الكفار مرت بطرق عدة.
{كما سئل موسى من قبل}، فلم يقل كما سألوا موسى من قبل، والظاهر أن سألوا اتصلت بضمير الفاعل، وسئل محذوف فاعلها وعوضت بنائب الفاعل، والمراد به هنا أن عددا ممن سبقكم سأل من قبل.

 ظهور المضارع للدلالة على الماضي: {ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون}.
وظيفته: لم يقل قتلتم لأن المضارع يفيد الاستمرار، فكأنه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السامع، فيكون إنكاره لها أبلغ، واستقطاعه لها أعظم .
 التعبير بالمضارع حكاية عن الماضي {وإذا يرفع ابراهيم القواعد من البيت و اسماعيل}.
 وظيفته: لاستحضار الصورة وكأنها مشاهدة بالعيان وكأن السامع ينظر ويرى، وهذا من محاسن البيان.

 تكرار صيغة فعيل “قدير ، نصير ، عظيم ، بصير”.
 وظيفتها: إن الفرق لبين بين القدير والقادر ، والباصر والبصير ، فصيغة فاعل تفيد التغيير، وفعيل تفيد الثبات والاستقرار، فنقول أحمد جالس أي بعد وقوفه، فحدث تغيير، لكن بقولنا أحمد جليس يتغير المعنى من المتحول إلى الثابت، وصفات الله تعالى ثابتة مستقرة.

المستوى التركيبي

 التقديم والتأخير : {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني و إن هم إلا يظنون}.
 وظيفته: الأصل أن يقال و أميون منهم على اعتبارها مبتدءا ، لكن استهل الحديث بمنهم التي تفيد جزء قليل جدا من الكل ، كما أن شبه جملة متعلق بمحذوف خبر ، تقديره “موجودون أميون ، وهذا الوجود مطلق ، غير محدد ، فعدد الأميون أمر غير معروف ، لكنهم موجودين.

 البدل المطابق :” ولما جاءهم رسول من عند الله مصدقا لما معهم نبذ فريق من الذين اوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ” .
 وظيفته : كان من المقبول والمفهوم قول أوتوا الكتاب وراء ظهورهم، لكن الكتاب الثانية هي تأكيد وتقرير وترسيخ ودحض وتفنيد للقائل أنه ليس كتاب الله .

 تقديم المفعول به: {ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون}.
 وظيفته: تقديم المفعول به للاهتمام و تشويق السامع إلى ما يلقى إليه .

 وضع الظاهر مكان الضمير : ” فلعنة الله على الكافرين”.
 وظيفته : وضع الظاهر مكان الضمير ولم يقل عليهم ليشعر بأن سبب حلول اللعنة هو كفرهم .

مطلع سورة البقرة

المستوى البلاغي

 الخبر: {و إنه في الآخرة لمن الصالحين}.
الجملة مؤكدة بإن و اللام ؛ حيث إن الإخبار عن حالة معينة فهي في حاجة إلى تأكيد بخلاف حال الدنيا فإنه معلوم ومشاهد.
خبر في معنى النهي : {لا تعبدون إلا الله}.
خبر في معنى النهي ، وهو أبلغ من صريح النهي كما قال أبو السعود لما فيه من إيهام أن المنهى عنه حقه أن يسارع إلى الانتهاء ، فكأنه انتهى عنه فجاء بصيغة الخبر .

 الجملة الاعتراضية: {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه}، كلمة سبحانه جملة اعتراضية وفائدتها بطلان دعوى الظالمين الذي زعموا لله الولد .

• سورة البقرة مشتملة على ألف خبر وألف أمر وألف نهي.
• تحظى الجمل الفعلية في هذه السورة بشكل كبير على حساب الجمل الإسمية، ومرد هذا إلى طبيعة السورة التي هي في سياق التشريع والنصح والإرشاد والتوجيه، مما يدفع بمرسل الخطاب إلى توظيف أساليب إنشائية تدفع بالمتلقي إلى التأمل والتدبر والاستفسار، كما أنها تفيد الحركة والتغير بخلاف الجمل الإسمية الثابتة.

الإنشاء

 أسلوب الذم : {بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين}.
 وظيفته: قال الزمخشري إسناد الأمر إلى الإيمان تهكم به كقوله “أصلاتك تأمرك “، وكذلك إضافة الإيمان إليهم.

 الاستفهام للتقري : {ألم تعلم}.

 الهمزة للتنكير والتوبيخ {أفتؤمنون}.

 النداء: {يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم و أني فضلتكم على العالمين}.
 وظيفته: يريد عز وجل بالنداء جذب بني إسرائيل إلى الطريق المستقيم، لكنه وظف أداة النداء البعيد وربما فيه إحالة على مسافة بعدهم عن الطريق المستقيم، وبالتالي نجد أن النداء هنا تحول من منزلة القريب إلى البعيد لكي يفيد التوجيه والنصح والإرشاد.

 الأمر البلاغي: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات…} {تب علينا إنك أنت التواب الرحيم}.
 وظيفته: خرج الأمر من معناه الحقيقي الظاهر لكي يفيد الدعاء والتحسر.

 التمني: {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون}.
 وظيفته: معلوم أن التمني هو طلب حصول شيء يستحيل تحققه، وهنا وظف بأداة لو، وهل فعلا إيمانهم وتقواهم مستحيل التحقق؟ هنا نستحضر الوجه الثاني للتمني وهو طلب أمر عسير التحقق أو بعيد المنال، وربما إيمان هؤلاء يتخذ وقتا عسيرا لتحققه.

{فتمنوا الموت إن كنتم صادقين}.
 وظيفته: الأمر هنا يفيد التعجيز لأن تمني الموت لايتحقق إلا بقدرة الله والإنسان عاجز على ذلك.

 الأمر الظاهر: {وقولوا للناس حسنا، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}.

 النهي الظاهر: {لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون}.

 استفهام التصديق: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون}؛ {أفلا تعقلون}؛ {ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير}.
 وظيفته: وظف عز وجل استفهام التصديق بدل التصور الذي يرد عليه بنعم أو لا أو بلى…كي لا يدع مجالا للشك لدى المتلقي، فيسمع السؤال ويتبينه، ليؤكد ما سئل عنه وفيه.

علم البيان

 الاستعارة المكنية: {واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم}.
 شبه حب عبادة العجل بمشروب لذيذ سائغ الشراب.

{وأحاطت به خطيئته}: حيث شبه الخطايا بجيش من الأعداء قد أحاط بهم، واستعار لفظة الإحاطة لغلبة السيئات على الحسنات.
 المجاز العقلي: {يكتبون الكتاب بأيديهم}، ذكر الأيدي هنا مجاز للتأكيد بأن الكتابة باشروها بأنفسهم كما يقول القائل كتبته بيميني و سمعته بأذني .
{يعلمهم الكتاب}؛ و المقصود بها يعلمهم مبادئ وخصال الدين الإسلامي .

الاتساق والانسجام

 الفصل: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين؛ من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين}.
و الملاحظ أن ثمة بياض وفراغ بين الجملة الأولى والثانية، فهما متحدتان معنى لكنهما مبنى تميزا، فالقارئ يحس أنه يجب الوصل بالواو بين الجملتين كي يتحقق المعنى، ولربما هذا الفصل يعزى إلى مكانة وعظمة الله التي لا ترتبط ولا تشبه أحدا، لأن من سمات حروف العطف الجمع بين شيئين متقاربين أو في المجال نفسه، لكن الله تعالى هنا قدم جبريل ليبين مكانته، وأخر ذاته مع عدم الوصل بين الجزء الأول والجزء الثاني لبيان عظمته الخاصة به وحده مع إدراج جبريل في الشق الثاني من التركيب، وهو انتقال من الجزء إلى الكل .

 الاتساق المعجمي: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه}، فتشريفا له عليه السلام وإيذانا بأن ذلك الابتلاء تربية له وترشيحا لأمر خطير أي أن الله عزوجل عامله معاملة المختبر، حيث كلفه بأوامر ونواهٍ يظهر بها استحقاقه للنبوة .

 التناص الداخلي والخارجي
قال صلى الله عليه وسلم “تعلموا سورة البقرة وآل عمران فإنهما الزهروان، يظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان أو غياياتان أو فرقان من طير صواف”.
قال الضحاك عن ابن عباس ، يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا آمنا، وقال السدي هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وغير واحد من السلف و الخلف حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه ابن وهب عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا يدخلن علينا القصبة المدينة إلا مؤمن”، فقال رؤساهم من أهل الكفر و النفاق “اذهبوا فقولوا آمنا واكفروا إذا رجعتم إلينا، فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون إليهم بعد العصر، وقرأ قوله تعالى {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} (آل عمران 72).

الحقول المعجمية

في الحزب الثاني يطغى حقلان دلاليان، الأول مرتبط بعظمة الله وتمثله الآيات التالية : “ولله ذو الفضل العظيم، والله على كل شىء قدير، الله له ملك السموات والأرض، ولله المشرق والمغرب، بديع السموات والأرض، …” وحقل صفات الكفار والمشركين، وتمثله الآيات التالية : “الويل، عدوا لجبريل، في كفرهم، بئسما، أكثرهم لا يؤمنون، يعلمون الناس السحر، ماهم بضارين، ولو أنهم آمنوا، فريقا تقتلون …”.

ببليوغرافيا:

• الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم، محمد حسين سلامة.
• تفسير ابن كثير.
• تفسير التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور.

تحليل الحزب الثاني من سورة البقرة من منظور فقه اللغة

Exit mobile version