الغرق… وفيتامين “س”

(قصة قصيرة)

تثاءبت سعيدة في مقعدها الموجود في زاوية المقهى.
المقهى الذي تزوره كل يوم، مكان روتيني، مكان محدد في أنشطة يومها المحدودة.
عدد قليل من الناس هناك، يتحدثون عن أشياء تخصهم، نظرت للجميع، لم تعرف أحدا.
تطلعت من النافذة القريبة منها، ورأت فراشة برتقالية حطت على الزجاج، وبدأت تنظر إليها، اقترب نادل من النافذة، فابتعدت الفراشة، ولكنها نظرت الى سعيدة نظرة أخيرة ثم انطلقت.
هل رأت هذه الفراشة من قبل ؟ ربما في منزل ابنتها التي لم تراها منذ خمس سنوات.

فكرت سعيدة في ذلك مطولا، كان ذلك خطئها بالتأكيد، لم تراقب حفيدتها جيدا، حتى كادت تسقط من نافذة المنزل، ولكن لم يكن ذلك السبب الوحيد، علاقتها بابنتها لم تكن وطيدة، كانت تحس مع ابنتها في بعض الأحيان ببعض الغرابة، كانا غريبين يلبسان قناع الابنة والأم.
تناولت سعيدة صحيفة متواجدة على طاولة بجانبها، وبدأت تقرأ، لعل بعض الأفكار السوداوية تذهب بعيدا، وجدت صورة لنفسها في الصحيفة، حملقت جيدا في الصورة، إنها هي، في هذا المقهى بنفس الملابس.

تساءلت مع نفسها : كيف لهذه الصورة أن تتواجد في قسم الحوادث ؟
رفعت رأسها لقراءة العنوان (اعتداء بالضرب لابنة على أمها الستينية في مقهى).
سمعت قعقعة صاخبة، أتت من رجل يمتلك أسوأ ضحكة في العالم، ثم نظرت للصحيفة من جديد، والعرق القادم من أصابعها يبلل صفحات الجريدة.
رشفت من عصير البرتقال المملوء عن آخره المتواجد أمامها؛ جسمها يحتاج الى فيتامين س، هكذا فكرت سعيدة، ثم حولت نظرتها الى الجريدة من جديد، العصير في الصورة فارغ، باستثناء لب البرتقال المتواجد في قاع الكأس الزجاجي.
هل سيحدث هذا حقا بعد أن أشرب هذا العصير ؟
يعمل دماغها بصورة سريعة لم يعمل بها من قبل.
فكرت باستبداله بعصير الأفوكادو ولكنها لم تفعل ذلك، الأفوكادو يزيد من وزنها.
في الليلة الماضية، اقتحمت منزل ابنتها، لترى حفيدتها.
كانت لا تزال تملك مفتاح المنزل، دخلت متسللة لبيت حفيدتها، جلست في الكرسي المقابل، وبدأت تراقبها وهي نائمة، طيلة الليل، ثم غادرت قبل استيقاظ ابنتها وزوجها، لكنها لم تكن تعي بتواجد كاميرا مراقبة في البيت.
كاميرات مراقبة في كل بيوت الشقة، الزوج يخاف من “الحرامي”.

شعرت سعيدة بانقباض في معدتها، كان ليس جراء شربها للعصير، ولكن بسبب الوحدة التي بدأت تشعر بها مؤخرا، تشاجرت مع صديقتها الوحيدة منذ شهور، لاحظت أن كل زوار المقهى يجلسون مع أحد ما، ليس هناك أي شخص وحيد، كانت سعيدة وحيدة وشعرت حقا بذلك.
ألقت نظرة على الجميع، البعض يضحك، البعض يبتسم، والبعض الآخر يستمع للشخص أمامه.
أحست بشعور مريع، وبأفكار غريبة، تمنت لو تأتي ابنتها الى المقهى، أن يتحدثا من جديد، ولو بكلمة واحدة، حتى ولو آذتها ابنتها بالكلمات، أو بالضرب الجسدي.
أرادت أن تُنهي العصير لترى ماذا سيحدث ؟
الضرب ليس سيئا، إذا كان الأمر سيؤدي الى تواجد ابنتها هنا.

لن تعود غريبة عن هذا المكان، على الأقل شخص ما سيعرفها، من هي، من تكون، هي المرأة التي تجاوزت الستين، عاشقة بوب مارلي وناس الغيوان، المرأة التي لم تعد كما كانت، المرأة التي عشقت من قبل، المرأة التي تبكي كل يوم، المرأة التي تعشق أفلام فرانسوا تروفو وأنييس فاردا، المرأة التي تفكر، المرأة التي امتلكت عائلة، المرأة التي اسمها سعيدة، المرأة التي تذرف الدموع عندما مشاهدة أفلام نورا افرون، المرأة التي تشجع فريق أرسنال، المرأة المثقفة، المرأة التي تعشق الطبخ الياباني، المرأة التي تركب الباص لأنها تتعلق بالناس البسطاء هناك، المرأة التي تضحك مع الغرباء رغم أنها تجد صعوبة في التواصل معهم، المرأة التي لم تعرف من هي أريانا غراندي بعد، المرأة التي تخاف من استعمال تويتر، المرأة التي تحب مشاهدة فيديوهات القطط والحيوانات الأليفة، المرأة التي تتقن طهي الأومليت، المرأة التي تحب ابنتها وحفيدتها حبا جارفا، المرأة التي ستكمل شرب العصير، المرأة…

التجسيد الفعلي للخوف قد يأتي بعد حين.
أرادت سعيدة إنهاء شرب عصير البرتقال، فالوحدة قد تؤدي بنا الى نتائج مأساوية. حركت رأسها بسرعة لتبعد عنها الأفكار السوداوية، فتحرك شعرها الكستنائي الجميل وبدأت بالتفكير في ابنتها، وهل حقا ستأتي بعد قليل كما تقول الجريدة، فجأة صمت كل من في المقهى، وأضحوا ينظرون إليها، وأصبحت كممثلة في مسرحية مونودرامية، أصبحت “الحدث”.

لم تنم طيلة ليلة البارحة، التفكير في ابنتها وعلاقتهما معا يرهقها نفسيا وجسديا، أجفانها متثاقلة، وعيناها حمراوتان، لا تبدو بخير بتاتا، بدت مزرية.
ولكن سعيدة شعرت بنوع من السعادة، ذلك النوع الذي يأتي مع الأضرار الجانبية، هل ستتمكن من التحدث مع ابنتها، كانت تعلم سعيدة أن ابنتها شابة عنيفة منذ صغرها، لا تتحكم في أعصابها، وافترضت أنه في أسوأ الأحوال أنها ستتعرض للضرب المبرح أمام زوار المقهى، أو الجمهور.

سيطر على سعيدة شعور مرهق وظريف في نفس الآن، الشعور بالخوف من انهاء العصير، والأمل في رؤية فذة كبدها من جديد. اقتربت من الكأس وشربت محتواه دفعة واحدة دون أي توقف، تاركة لب البرتقال في قاع الكأس. دخلت الفراشة من جديد للمقهى، تبدو خلابة وآسرة تحت ضوء الشمس القادم من نوافذ وباب المقهى، وحطت على كأس سعيدة، ثم توقفت قليلا تنظر إليها. منذ آخر لقاء مع ابنتها، رأت فراشة مثل هذه في البيت الذي تشاجرا فيه، لعلها فراشة أخرى، لكن الشبه واضح.

دخلت الفراشة ذات اللون البرتقالي داخل الكأس، آملة في لعق ما تبقى من العصير، ذلك اللب البرتقالي اللذيذ، لكنها سقطت داخله وبدأت تغرق، لم تلاحظها سعيدة في بادئ الأمر لأنها كانت تراقب باب المقهى، وهي تتوخى دخول الابنة. عندما رصدت الفراشة، كان قد فات الأوان، هناك سقطت ميتة داخل اللب حيث من الصعب رؤيتها، فالكل أصبح برتقاليا، موحدا، مشتركا، ممزوجا.

حملت سعيدة الكأس، وبدأت تلامسه بخدها ثم نظرت إليه بإمعان. كانت الفراشة هادئة هناك، صامتة، لا تتحرك، مسالمة بكل تفاصيلها. وضعت سعيدة الكأس، ثم نظرت للجميع، والجميع ينظر إليها، وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه، هي بطبعها خجولة جدا، لا تحب الأضواء المسلطة عليها، أحست بأن الفراشة الميتة تشاهدها أيضا، لم يشغل كل هذا أي حيز في تفكيرها، حيث أن التفكير كان في بنتها الصغيرة الكبيرة. بعد هنيهة، كانت مستعدة للرحيل، لم تنطق بأي كلمة، كان الصمت كافيا، حملت حقيبتها البنية، ووضعت بعض النقود على الطاولة، قبّلت الكأس، كأنها تقول وداعا للفراشة، ثم اتجهت نحو الباب، هناك سمعت صوتا مألوفا خارج المقهى، صوتا يصرخ، هل حقا هو صوت ابنتها ؟ هل حقا أتت ؟

رجعت سعيدة للطاولة، وأغمضت عينيها، ثم سمعت الصوت من جديد ولكنه الآن داخل المقهى.
ابتسمت سعيدة ابتسامة عجيبة لم تقم بها منذ شهور، شعرت بشيء يتحرك داخل الكأس، فتحت سعيدة عينيها لترى ماذا يحدث، حيث أن الفراشة خرجت من هناك، وهي ترفرف بصعوبة بالغة، وهي تمر أمام سعيدة، توقفت قليلا، نظرت إليها ثم سقطت على الطاولة.

أغلقت الفراشة عينيها، أغلقت سعيدة عينيها، وظلا يستمعان للصراخ، ينتظران أملا، ضربا، حبا، حديثا، ينتظران شيئا، اقترب الصراخ شيئا فشيئا من وجه سعيدة، وكلما اقترب، كلما اتسعت ابتسامتها قليلا.
الانتظار يوشك على النهاية، فرحت الفراشة لأنها لم تمت في مكان يشبهها، كان لون الطاولة رماديا، ستظهر للجميع هناك ممددة، ستُشعرهم بالحزن، ثم سيضعها النادل في سلة المهملات، مع قشور البرتقال وبقايا البن، والأكياس الورقية المستعملة، ولكنها سعيدة الآن، وهي تشاهد هذه المرأة أمامها تبتسم، شعرت هي الأخرى أن جميع المخلوقات البشرية في هذا المكان ينظرون إليهما، وينظرون الى مصدر الصوت، ولكنها لم تهتم بذلك، كان مصدر الصوت أمامهما الآن.
صراخ صاخب.
ابتسامة أمل.
صراخ من جديد.
كلمات غير مفهومة.
صوت تكسر كأس على الأرض.
ظلام…

الغرق… وفيتامين س (قصة قصيرة)

خالد موقدمين

طالب باحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *