لماذا انتحرت جدتي؟

لماذا انتحرت جدتي؟
ملاحظة:
(أكتب هذا النص في أصله إلى أحد الأصدقاء، وأنا الآن أحس أنه حان الوقت لأشاركه معكم)

في يوم الإثنين من شهر فبراير 2021، التقيت بقريب لي يدعى “أكرم” وبعض أصدقائه في مقهى بمدينة الرباط. قادنا النقاش الشيق الذي كان يدور بيننا إلى عالم الغيب، وقد كان لكل منا نظرته الخاصة لهذا العالم المفترض. ولكي يفسر قريبي وجهة نظره حول هذا الموضوع سرد لنا قصة عن جن أفقد أحد جداتي عقلها، ودفعها في الأخير إلى الانتحار. كنت مندهشا عند سماع تلك القصة لأنني لم أكن أعي حدوثها بالأساس.

سيطرت القصة على ذهني ودفعتني إلى زيارة جدتي لكي أسمع القصة من عيون حضروا للحادثة وعاشوا الواقعة. دخلت المنزل وجمعت الجَدَّات، وجلست بينهن أسمع وأسجل القصص التي يحكونها.
تقول أم جدتي “زُهُور” إن جدتها “حَبيبَة” كانت امرأة قوية ومرحة، تحب الحياة وتحب من يحبها، تساعد المساكين وتعطف على الفقراء، وقد كانت تعمل ك طَيَّابَة تعد أطباق الكسكس الفاخرة للمترفين والأغنياء. وقد كانت ابنتها “لالة فاطمة” تعمل في مصنع للقمح.

سكنت العائلة في “المدينة القديمة” بسلا لمدة طويلة من الزمن وانتقلوا بعدها إلى بادية خارج أسوار المدينة لم يكن يتعدى سكانها آنذاك الثلاثة آلاف نسمة أما الآن فتفوق المئة ألف. بنى جدي “الجيلالي” زوج لالة فاطمة منزلا بتلك البادية، وقطنت العائلة هناك إلى يومنا هذا.
بدأ حديثي مع الجدة بسؤال طرحته والخجل يملأ وجهي لأنني كنت خائفا من ردة فعل غريبة من طرفها، لكن الأمر ذهب بخلاف المتوقع، واستقبلت سؤالي كما لو أنها كانت تنتظره.
– أريد أن أكتب قصة قصيرة كلفني بها أحد أساتذتي بالجامعة، وأريد مساعدتك.
– كيف لعجوز أن تساعد في تمارين جامعية (قالت الجدة مستهزئة)
– أحتاج لمن يساعدني على التعرف على أصول العائلة وعن الأحداث الكبرى التي شكلت اسمها. (طبعا لم يكن السؤال بهذه الصياغة فأنا أحاور ثلاث جدات أصغرهن تفوق الستين)
– نعم يا بني، لكن ماذا تريد أن تعرف بالضبط؟
يا لها من ماكرة، إنها تعرف ماذا أريد أن أسأل:
-إنني أريد أن أعرف قصة جدتي حبيبة وعن موتها التراجيدي.

– حبيبة. . . اههه للزمن، لا يجود شيء أخفيه عليك يا بني، لقد كانت المرأة “صحيحة فصيحة “حتى أصابها جنون لا نعرف علته، ذهبنا بها إلى “الفقهة” وزرنا الأسياد والأولياء والأضرحة، لكن لم ينفع معها شيء. حتى أن أمي لالة فاطمة ذهبت بها إلى الطبيب، نعم الطبيب يا ولدي، لكن هذا الأخير لم يعرف سبب مرضها، وظل يقول لنا إنها تعاني من مرض عقلي، وأنها تحتاج طبيبا نفسانيا مختصا، وكما تعرف يا ولدي الأطبة كذابون يريدون فقط نهب أموالنا، ولذلك قصدنا “الفقيه الله يرحموا” وظل يزورنا لقراءة ما تيسر من القرآن، فذلك هو الدواء الحقيقي لكل مريض.
– ماذا حدث بعد ذلك؟
– لقد ظلت “مي حبيبة الله يرحمها” (مي هي مختصر لأمي في العامية المغربية) في نفس الوضع الذي وجدناها عليه يوم فقدت عقلها لمدة ثماني سنوات، لا تتكلم ولا تفهم ما يقال لها، كما أنها لا تنام مطلقا، الشيء الوحيد الذي كانت تردده طوال الوقت هو اسم منانة.
– لم تنام لمدة ثماني سنوات؟ هذا أمر مستحيل! ! !
– والله يا بني لم تكن تنام لا ليلا ولا صباحا، وقد كانت جدتك منانة تحرصها بالليل لكي لا تؤذي نفسها.
فأدرت وجهي اتجاه جدتي منانة وأكدت لي قولها بهزة رأس:
– نعم، لكن كيف ستنتهي القصة؟
– في أحد الأيام وحين كنا نتناول الشاي عند جدتك “ربيعة” في الطابق السفلي من المنزل سمعنا صوتا قويا يأتي من الشارع، وكأن أحدهم رمى حجرا ضخما من السطح، خرجنا نتفحص الأمر وإذا بجدتك حبيبة مستلقية على ظهرها مغروسة وسط سيارة كانت تقف تحت المنزل، لقد كان الأمر مرعبا، لكننا تمكنا من انقادها في الأخير.
– هل كانت محاولة انتحار؟
– لا تقل ذلك، لقد كانت مشوشة العقل، وقد فعلت ذلك خطأ، “الله يعلم ما في القلوب”.
– كم عاشت بعد تلك الحادثة؟
– أشهر قليلة…

في هذه اللحظة توقفت عن طرح الأسئلة لأنني لم أكن مستعدا لحضور مشهد درامي تبكي فيه الجدات الثلاث، لقد كنت حريصا على عدم الوقوع في ذلك الفخ.
-شكرا يا جدة، أتمنى أن أعرف المزيد في المرة القادمة التي أزورك فيها.
– أنا سعيدة لأنك تهتم بهذه الأمور، الآن قل لي كيف حال حبيبتك؟

ذلك النقاش لا يهمكم فهو بيني وبين جدتي، أما ما سأحكيه لكم الآن هو الطبيعة الفلسفية والسيكولوجية لذلك الانتحار. لم تكن جدتي مجنونة ولم يكن يسكنها جن أو عفاريت، فقد كانت سليمة من هذه الأمور الأسطورية، لقد كانت تعاني من نوع حاد من الألزهيامر يصيب عددا قليلا من الناس، نسيت بسببه من تكون ومن هم الناس الذي يحيطون بها. لقد أدى ذلك الفراغ الهوياتي إلى صمت تجاوز سبع سنوات، إلى أن قررت يوما أن تخترق ذلك الصمت لتبحث في أعماق وجودها، وجود تعرف فيه من هي، وتعرف الوجوه التي تزورها، لقد قتلتها العزلة وسط الناس، الفراغ وسط الجموع، لقد قتلها الصمت. انتهت القصة

وليد، أحد أبناء الجدة حبيبة

لماذا انتحرت جدتي؟

وليد احمين

وليد احمين طالب بالمدرسة العليا للأساتذة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *