بضع وعشرون يا أمي

كانت تلك العشية حين أخرجت من جيبي الأعلى من جانبي الأيسر زهرة ياسمين كنت قد وضعتها هناك في صباح ذلك اليوم. تذكرت أنها ذكرى مولدي، وابتسمت هازئا من سخرية القدر! الهم والياسمين! ما أبلغ الحياة في هداياها! والأعجب من ذلك جانبي الأيسر الذي جعلته الحياة نضاحا بكل متناقض عجيب، كالهم والياسمين مثلا.
وهكذا جاء الهم والياسمين وبضع وعشرون سنة وأمي!

****

أَخمسةٌ تَقْتَفي العشرينَ أم سَبْعَهْ؟
صدقًا أقول، أنا ما عدتُ أَعْلَمْ!
أَظُنُّها سِتَّةً إن لَمْ تكن تِسْعَهْ!
لا فَرْقَ مادام تَحكي عُمْرِيَ اللَّوْعَهْ
أَبَسْمَةٌ تَعْتَلي الفُؤادَ أَمْ دَمْعَهْ؟
يا سادة! صدقوني لم أَعُدْ آبَهْ!
في القبر لا فرقَ بين اللَّثْمِ واللَّسْعَهْ!
بِضْعٌ وعشرون عَبَرْتُها أَسْعى
أَرعى عهودَا لدى الزَّمان لا تُرْعى
بِئْرُ الزمان يَفيضُ غَورُها مَنْعا
فَيَسْقُطُ الحالِمونَ عندها صَرْعى
بِضْعٌ وعشرون وردةً وَدَمْعَهْ
وبِالطُّموحِ أَشِيدُ أَلْفَ قَصْرٍ
على رِمالِ المُنَى وأَلْفَ قَلْعَهْ
وألفَ أُمْنِيَةٍ
وألف راقِصَةٍ
تَبْقى خُطَاهُنَّ بَعْدَ أَلْفِ مَعْرَكَةٍ
وألف مَوْتٍ وألف هَجْعَهْ
وَألف من رَحَلُوا بلا رَجْعَهْ
*******

بِضْعٌ وعشرون أَرَّخَتْ قَصائِدَها
أَنْوارُ عُمْرٍ تُذيبُ الحُزْنَ عَنْ عُمُري
فالعُمْرُ رَوضٌ وَأَنتِ النُّورُ يا أُمِّي
وأَنْتِ فَيَضُ حياة القَلب
وأَنْتِ بَعْضُ وجودِ الله
وأَنْتِ سِرُّ خلودِ السّر
بِضْعٌ وعشرون يا أُمِّي
واليَاسَمينُ وَبَحْرُ هَمٍّ يَعْشَقُني
الهَمُّ والياسَمين عِيدُ ميلادي
وَهَمْسُ أمنية تَصيحُ في أُذُني:
“أَنا القَتيلَةُ قَدْ عَشِقْتُ جَلّادي”
*******

الأم
صورة تعبيرية

ما أَعْظَمَ الحُزْنَ في ضُلوعِ غالِيَةٍ
تقولُ لِلْبُؤْسِ مَهلًا ذَلِكُمْ وَلَدِي!
ما أَعْظَمَ العَزْمَ في شيخٍ يُطيقُ معي
خَيْباتِ سَعْيٍ يُحيطُ أَمْسُها بِغَدي
ما أَصْدَقَ الحُبَّ في عُيونِ باسِمَةٍ
تَقُولُ كُنْ بَعْدَ رَبِّي يا أَخي سَنَدِي
وَمِثْلُها زَهْرَةٌ أُخْرى أُخُوَّتُها
ذِراعُ عَطْفٍ يَقْوى بها عَضُدِي
*******

تَهُزُّني عاصِفاتُ الدَّهْرِ باغِيَةٍ
تَبْغي سُقوطي وليْسَ يَسْقُطُ الجَبَلْ
إِنِّي أنا جَبَلٌ وإِنْ من المِحَنْ
وَمِنْ شَقاءٍ ومن صَبْرٍ ومن أَمَلْ
كَلّا وَربِّ الدُّنَى لا يَنْثَنِي دَرْبي
ما فاضَ يَسْقي هَوَى أَحٍبَّتِي قَلْبي
وَوَحْدَهُ أُنْسُكُمْ يُهَوِّنُ التَّعَبَا
أَحِبَّتي وَإنْ طالتْ بنا السُّبُلْ
يَوْمٍا على غُرَّةِ السُّرورِ يَقْرَؤُنَا
عيدٌ بِحِبْرٍ من الأَفْراحِ قد كُتِبَا
يَوْمًا سَتَسْأَلُني الأَيَّامُ عَنْ نَصَبي
يا قَلْبَ أُمّي أَجِبْها أَن لَقَدْ ذَهَبَا!
يومًا سَتَسْمَعُني الأَيَّامُ أَمْدَحُها
لأَنَّ أَحْزانَ أُمّي ذاب آخِرُها
مَنْ يَدَّعي تَعَبًا والأُمُّ تَحْضُنُهُ
فَوَالَّذي بَسَطَ المَدى لَقَدْ كَذَبَا!

بضع وعشرون يا أمي

فريد عبد الرحيم

أنا إنسان ولد ليحيا ثم يموت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *