قراءة في كتاب “بنيان الفحولة”

للكاتبة رجاء بن سلامة

إذا جاز لي أن أصف الكتاب بكلمة، فسوف تكون “الجرأة” هي الكلمة المناسبة، الجرأة في قول المسكوت عنه والمتورع عن قوله، وكشف الحقائق المحجوبة. الكاتبة نفسها تصف تجربة الكتابة هاته بالمغامرة.

موضوع الكتاب

رجاء بن سلامة في هذا الكتاب اتخذت موقفا ثالثا، يقع خارج الثنائية التقليدية السائدة في الموقف من قضية المرأة منذ النهضة العربية، بين من يرفض أي تعديل في الصيغ العلائقية بين الرجل والمرأة (الموقف الأصولي/الفقهي/المحافظ) وبين من يريد أن “يسحب بساط تفسير النصوص الدينية من تحت أصحاب الموقف الأول” ليخلص إلى أن لا تعارض بين المنظومة الحقوقية في كلها وفي شقها المتعلق بالمرأة وبين الشريعة الإسلامية ويؤسس لعدالة جندرية انطلاقا من النصوص الدينية باعتماد قراءة جديدة، مختلفة، معاصرة وحداثية. وكلا الموقفين لا ينطوي على تأسيس قطيعة مع الماضي ومنتجاته الثقافية الاجتماعية ولا يتوقف عن “الأسطرة الطوباوية للأصل”.

موضوع الكتاب كما عنوانه حول الفحولة، وبنى الفحولة، وتجليات الفحولة، على المستويات المختلفة : المستوى الجنساني والاجتماعي واللغوي والسياسي..

الكاتبة التونسية رجاء بن سلامة

يفترض نظام الفحولة وجود ثنائيات الذكر/الأنثى، الذات/ الموضوع ، المركز/الهامش مع تفوق واضح لأحد قطبي الثنائي على الآخر، هذه الثنائيات ثابتة، منفصلة، ومتمايزة، ولا تمكن مماهاتها، ولا يسمح بالوقوف في المنتصف بين طرفيها، لذلك لم يكن المجتمع العربي المبني بناء فحوليا ليتسامح مع وجود ما يهدد الفصل الحاسم بين المذكر والمؤنث، فكانت عقوبة المخنث قاسية، بحرمانه من حقوق الزواج والإمامة والولاية غالبا، ورميه بعيدا عن دائرة الفحولة إلى دوائر المهمشين والمقصيين، وأما عقوبة المثلي فتكون بإقصائه من دائرة الحياة نهائيا بأقسى طرق القتل : الحرق أحيانا، و الدفن حيا أحيانا، والرمي من شاهق أحيانا..

حجاب المرأة وقوامة الرجل

تتابع الكاتبة تفكيك ملامح البنية الفحولية للثقافة العربية الإسلامية، من خلال التركيز على مبدأين تعتبرهما أساسيين في تحديد الصيغة العلائقية بين الجنسين وبالتالي تحديد وضع المرأة، وهما : الحجاب، والقوامة. ويسترسل الكتاب في التأريخ والتأصيل لمؤسسة الحجاب بإرجاع جذورها إلى ما قبل ظهور الإسلام بالجزيرة العربية، ويتضح من خلال الدلائل التاريخية و النصية أن اللباس كان لباس نساء المنطقة قبل الإسلام، ثم جاء الأخير مؤكدا له ومبينا صفته الإسلامية الجديدة، وناسخا ما أسماه “تبرج الجاهلية”.
ووجب توضيح المقصود هنا ب “الحجاب” الذي لا يرادف، لغة ولا اصطلاحا، غطاء الرأس (الخمار) الذي كانت النساء والرجال -العربيات والعرب- يرتدونه قديما، ولم يزد الإسلام إلا أن عدل صفة وضعه، وكلمة الحجاب لا تقابل في العرف أو اللغة أي نوع من اللباس بالضرورة، بل لربما كان الحجاب يعني مكوث المرأة في البيت أكثر من أن يعني تغطيتها شعرها، لأن تغطية الشعر أو الرأس كانت عادة يلتزم بها الرجال أيضا.

يحيل الحجاب على مجموعة من القواعد التي تحد من حضور المرأة في الفضاء العام، وتنظم هذا الحضور إن لم يكن منه بد. ويشمل الحجاب في ذلك الأوامر الشرعية التي فضلت جلوس المرأة في البيت وحثت عليه “وقرن في بيوتكن”، باعتبار البيت الفضاء الأصلي والطبيعي للمرأة، وبما أن خروجها من الخاص إلى العام طارئ، فإن الأحكام تتسع لتشمل الطارئ، وتقننه، ففرض الجلباب والخمار ليس إلا إصرارا على استمرارية فصل المرأة وجسدها عن الفضاء العام.

ولم يزد الإسلام في لباس العربيات الإ أن حرم بعض الزينة (مثل الوشم) وأوجب ضرب الخمر على الجيوب، وإدناء الجلابيب، والجلباب كما تصفه الكاتبة حجاب فوق الحجاب، يدنى على المرأة ليغطي سائر الجسد من الوجه إلى القدمين. كما أكد ما سوى ذلك من أعراف العرب في حجر النساء في البيوت ومنع ظهورهن.

الوظيفة التمييزية للحجاب مزدوجة، فهو من جهة أداة تمييز بين الرجل والمرأة، بين الوظيفة الفاعلة لجسد الرجل (قوي، ايجابي، متحرك، يستثمر في العمل وفي ممارسة العنف وفي الفعل الجنسي) والوظيفة الرمزية لجسد المرأة (رمز للغواية، ومساحة لوجود الشيطان، وموضوع اشتهاء جنسي، و يمكن تحويله الى رمز للعفة والشرف على المستوى الفردي ورمزا للسيادة وللتفوق القومي على المستوى الجماعي ) ومن جهة أخرى تمييز الحرة المحصنة عن الأمة المباحة التي لم تطالب بالتستر وعدت عورتها كعورة الرجل، ومرة أخرى يحرم تعدي الحدود الفاصلة بين الثنائية القائمة، فالحرة حرة والأمة أمة وعلى الأولى أن تنماز بلسابها عن الثانية (حادثة ضرب عمر للأمة المحجبة). تتحدث الكاتبة هنا عن مجتمع مركزه الرجال، بينما النساء فيه موضوع تبادل بين الرجال من خلال البيع والشراء أو الزواج (بما أن كثيرا من الفقهاء اعتبروا الزواج نوعا من الرق)، تعتبر المرأة الحرة هنا رأسمال رمزي للرجل، تحفظ شرفه وتنجب أبناءه، بخلاف الأمة التي هي رأسمال حقيقي لإمكان بيعها وشرائها. والحاصل هنا مجتمع هرمي يعتليه الرجل الحر المالك لأكبر عدد من العبيد والنساء، ويتدرج نزولا إلى أن ينتهي بالمرأة في أدنى أوضاع العبودية والخضوع.

أما مبدأ القوامة، الذي جعل أمر تدبير المورد الاقتصادي للأسرة بيد الرجل، فيشمل حق الرجل في الزواج التعدد وفي التسري، وحق الأمر والنهي، والحق الشرعي -والواجب أحيانا- في تأديب الزوج زوجته تأديبا متدرجا قد يصل إلى الضرب، من المثير للضحك أن بعض الفقهاء برر هذا الحق باشتراط استحضار الحنان في طقس الضرب هذا، وهو ما تسميه الكاتبة هازئة “الرحمة القاسية” أو “القسوة الرحيمة”. ومبدأ القوامة هذا لا يحتاج إلى جهد لتفسيره، وإن صرف هذا الجهد كثيرا من طرف مناصريه في تبيان الفروق الجوهرية الطبيعية/الإلهية الثابتة والأزلية بين الذكر والأنثى، بتوظيف مكتشفات العلم الحديث بعدما كانت الفروق الجندرية، في الفقه والطب العربي، تستخرج من الخرافة، وتفسير ورود مبدإ القوامة في القرآن لا يحتاج الى جهد ما دامت آية القوامة قد استتبعت بآيات تفضيل البعض على البعض، والدرجة التي للرجال على النساء… فالإسلام وإن كان قد ساوى بين الرجل والمرأة من الناحية الروحية، في فرض العبادات والمساواة في الحساب الأخروي، فإنه لم يساو أبدا بينهما من الناحية الأنطولوجية، وإنه لمن العبث افتراض أن ذلك وقع في كتاب كان يخاطب أقواما استوطنوا صحراء قبل 15 قرن من الآن. كان القرآن إذن يؤكد على الميزة الأنطولوجية التي وهبت للرجل على المرأة وعلى تفوقه وأهليته للولاية والإمامة والاستخلاف في الأرض، وهو بذلك يساير الظرف الزمني والمكاني الثقافي التي نشأ فيه.

يؤسس مبدأ القوامة لمركزية أبوية، تجعل الأب/الزوج رئيس العائلة وراعيها، وباقي أفرادها رعية له، ولا يقتصر هذا الوضع على المجال الخاص وفضاء الأسرة فقط، بل يطاله إلى أوسع مجال يشمل المجتمع، فالعلاقة بين الخاص والعام علاقة مرآتية، تؤكد الكاتبة، وهذا مدخل تنفذ منه الكاتبة لتفسير الوضع السياسي اللاديمقراطي في العالم العربي، فالعلاقات الأبوية الأسرية، تنعكس على العلاقات المجتمعية العامة، فيتأسس المجتمع على علاقات تراتبية تحدد موقع الراعي والرعية دائما، هذا بالإضافة إلى الصفات والسلط التي تجتمع في الشخص الواحد باعتباره الحاكم والأب والقاضي… إن استمرار البنى الأسرية التقليدية يجعل من الحلم الديمقراطي العربي في عداد الأماني المستحيلات، ولهذا بقي مجال الأسرة والأحوال الشخصية الحصن الأخير للشريعة الإسلامية في القوانين العربية، إذ جميع القوانين في أغلب البلدان العربية تنتهج تشريعا وضعيا عدا القوانين المتعلقة بأحكام الأسرة والزواج والطلاق وعلاقة الزوج بالزوجة… ولهذا أيضا حطمت الدول العربية أرقاما قياسية في التحفظات على بنود نصت على المساواة وإلغاء التمييز في اتفاقية سيداو المتعلقة بالمرأة واتفاقيات حقوق الطفل…

صورة تعبيرية

موقف الكاتبة

لا يفوت الكاتبة مناقشة الموقفين السائدين من قضية المرأة في العالم الاسلامي : موقف أول محافظ، يسكنه هوس الهوية والخصوصية الثقافية، ويتفق أنصار هذا الموقف على رفض منظومة حقوق الإنسان لسبب واضح يكمن في تعارضها الصارخ مع الإرث الفقهي الإسلامي، غير أن العجيب لدى هؤلاء هو سعيهم الدؤوب لاستخراج منظومة حقوق إنسان بديلة من الشريعة..

إن سؤالا مثل سؤال الديمقراطية، مثلا، لم يكن مطروحا لدى الفقهاء القدماء الذين لم يناقشوا وسائل لفرض الرقابة على الحاكم وإخضاعه للمحاسبة، وتعميم حق “الشورى” خارج دائرة أهل الحل والعقد، أكثر مما ناقشوا حكم الخارج عن ولي الأمر والشاق لعصا الطاعة وكيف يمكن لولي الأمر معاقبته. مما يدل على عدم وجود تأصيل لهذا المفهوم في الشريعة الإسلامية وهذا طبيعي نظرا للبيئة الثقافية التي ظهر وتطور فيها الإسلام، وبناء عليه فان أي بحث عن حقوق إنسان بين ثنايا النصوص الشرعية سيخرج منه صاحبه خالي الوفاض إلا من مبادئ قديمة في نسخ مستحدثة تارة، ومفاهيم بدائية تارة أخرى عن طبيعة الإنسان فضلا عن حقوقه، وذلك لأن مفهوم الكرامة الإنسانية والإنسان الغاية، بدل الإنسان الوسيلة، الذي على أساسه وضعت حقوق الإنسان، لم يصغ حتى عصر الأنوار..

الموقف الثاني : موقف الحداثيين المتشبثين في الآن نفسه بمنجزات الحداثة وحقوق الإنسان، وبالاعتقاد بأن النص الديني أسيء فهمه واستخدامه وعلى المسلمين أن يؤولوه من جديد، وعليهم أن يبحثوا في التاريخ الإسلامي عن عصر النساء الذهبي وفردوسهن المفقود.

تجادل رجاء بن سلامة بأن محاولات الحداثيين سحب بساط سلطة الديني والمقدس من تحت أقدام خصومهم لن تؤسس لحداثة ولن تبشر بتغيير لوضع الإنسان العربي. هي على العكس محاولة يائسة لإضفاء الشرعية الدينية على غير الديني، وشرعية قديمة على قوانين حديثة، أو شرعية حديثة على قوانين قديمة..
وترى أن لابد من تطوير لائكية دينية إسلامية، يتم فيها الفصل في مقتضيات الشريعة بين ما يخص العبادات وتوجيه علاقة الإنسان بالله وتنظيم حياته الروحية وبين ما يخص المعاملات والتشريعات التي تنظم علاقة الإنسان بالعام، وعلاقته بالمجتمع والدولة وهي شؤون دنيوية صرفة يجب تحريرها من قبضة الدين.

وإن كانت الكاتبة قد اعتمدت في تحليلها للأزمة الثقافية الجنوسية التي يعيشها العرب التركيز على مبدئين اثنين سبق ذكرهما، فقد دعت بالمقابل الى مبدئين لحل الأزمة هما مبدآ : الحداد والسفور.

الحداد موقف نفسي يجعل صاحبه يعوض عن فقده بالبحث عن مكسب جديد، يكون الفقد هنا الماضي وتراثه وحكاياته وأمجاده المتخيلة وفردوسه المفقود… والمكسب : الحاضر وآفاق المستقبل الواعدة، ويكون الفقد امتيازات الفحولة والقوامة، ويكون المكسب علاقات إنسانية جديدة يسود فيها منطق المساواة والتكافؤ والاحتفاء بالاختلاف الإنساني وجعله منطلقا لإغناء الذات وتكاملها..

أما السفور فقد لخصت الكاتبة دلالاته بقولها إنه “اسم لتجربة الانكشاف للذات، ولتجربة الخروج إلى الفضاء الأرحب أو الرحلة أو مطلق المسافة التي تغير الذات. تؤدي كلمة السفور جوهر ما في الحداثة من تعرية وانكشاف للبنى الرمزية اللاواعية وفي الوقت نفسه تحيل إلى تحول خلاق للذات.”

قراءة في كتاب “بنيان الفحولة”

Exit mobile version