ترانيم حياة

“لا شيء يدعو للضحك لا شيء يدعو للبكاء، كل شيء يدعو للفهم”
—————————————————————————

وقفتْ بجانبي وابتسامة خفيفة تكسو محياها، خمنتُ أنها تريد أن تقول شيئا لكن الخجل منعها، فبادرتُ بالسؤال:
– ماذا؟
– لقد أصبحتَ أستاذا. صمتتْ قليلا ثم تابعتْ:
– على الأقل أنت حققت حلما من أحلامك، أما أنا…
– لم يكن حلما
في تلك اللحظة جلستْ وآيات الاستنكار بادية عليها، وكأنها كانت تقول ” لماذا أصبحتَ أستاذا إذن؟”
– لم يكن من بين أحلامي يوما أن أصبح أستاذا. قلتُ لكي أزيل استنكارها.
عمّت لحظات صمت ثقيلة، لم ينطق أي منا ببنت شفة، كان النادل هو من كسر ثقل الصمت ذاك:
– بحال ديما أَأُستاذ؟
– نعم. قلتُ
– نورمال. قالتْ للنادل
رفعتُ رأسي من على الكتاب أمامي متعجبا:
– منذ متى أصبحتِ تشربين قهوة سوداء؟، كنتِ لا تستطيعين حتى شم رائحتها.
– منذ أن أصبحتُ عاطلة في هذا البلد التعيس.
– لا عليكِ، سيأتي الفرج، تشبثي بالأمل، ألم يقل الشاعر: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل؟
– وقال آخر: ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. ردتْ
لزمتُ الصمت، فكرتُ أن الدخول معها في مبارزة شعرية يعني الخسارة بالنسبة لي.
أحضر النادل كأسي القهوة، وضعهما بعناية وانصرف. رشفتْ من الكأس خاصتها ثم قالتْ:
– ماذا يعني لك الأمل؟
باغتني السؤال، فحاولتُ تدارك الوضع:
– الأمل اكسير حياة، بدون أمل ستدمرنا أهوال العيش، الأمل…
لكنها قاطعتني بحدة:
– تهرطق فقط، وتقول كلاما بلا معنى، كان عليك أن تعترف بأنك عاجز عن الجواب.
حاولتُ تحاشي النقاش، لا أريد أن أهزم الآن، نظرتُ في الأفق البعيد وقلت:
– أنظري هناك، إنه منظر رائع غروب الشمس، ألا يذكركِ هذا بقول السياب: ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نار؟
– لا، لا يذكرني بشيء.
أخذتُ أحك جبهتي عجبا من هذه المزاجية المتقلبة. وعلى حين غرة قالتْ:
– سأسألك سؤالا آخر، ثم رشفتْ رشفة أخرى من ” النورمال” وتابعتْ:
– ماذا يعني لك الوطن؟
– أي نوع من الأسئلة تطرحين اليوم؟ هل ترين في صورة فيلسوف مثلا؟. جواب هذا السؤال حسب المزاج، فعندما…
– حسب المزاج؟! يا لك من متلون، كنت أعرف أنك مراوغ فقط، ولستَ ذكيا ولا مثقفا، تحفظ فكرة واحدة، ثم تقلبها على جوانبها عبر الثرثرة والسفسطة، فيتوهم الآخرون أنك بارع فعلا، ومطلع على كل شيء، لكنك لا تغدو أن تكون مجرد سفسطائي فقط.
صمتتْ لبرهة وأخذتْ تبحث في محفظتها عن علبة السجائر، لم تجدها، نظرتْ إلي نظرة تساؤل
– لا أملك سجائر، أنا لا أدخن. قلتُ
قهقتْ في سخرية وقالتْ:
– آمنت بالله، لكنك لم تجب عن سؤال الوطن، أم أنك الآن أصبحتَ أستاذا ولن تقدر على انتقاد وطنك؟، بالأمس كنتَ كارها له تحلم بالهجرة وتسبه من طنجة إلى الكويرة، أما الآن فيبدو الوضع مختلفا. أكيد أنك ستنزل إلى الشارع للاحتجاج مع تنسيقية الأساتذة بلا بلا بلا، لكنكم تدافعون عن مصالحكم فقط، وتكذبون وتقولون المدرسة العمومية. يا لهذا القرف!

كانت تتحدث بانفعال، أردتُ الجنوح بها نحو هدنة:
– حتى أنتِ ستنضمين إلينا العام المقبل
– لا أبدا، لقد اتخذتُ قراري، لن أجتاز مباراة التعليم.
قالت جملتها تلك بنبرة هادئة وحزينة
– وبما تفكرين؟
رفعتْ رأسها نحو السماء، ثم أطلقت زفرة ببطء وقالتْ:
– أريد أن أصبح ناشرة
– ناشرة ماذا؟
– ناشرة كتب، أحلم أن أمتلك دار نشر، أريد أن أقضي سنواتي المتبقية مع الكتب أقرأ منها ما أستطيع، وأنشر لكتاب مغمورين أمثالك
– إنك حالمة
– وأحب ذلك، لكن تذكر، أنا أكبر منك سنا، يعني أكبر منك خبرة
– لا كبير فرق بيننا، تكبرينني بسنتين فقط
– سنتان، أليس في المثال الشعبي “لي فاتك بليلة فاتك بحيلة”
– بلى
– اصمت إذا

صمتُّ فعلا، بينما وجدت هي سيجارة يتيمة في جيب سترتها، نفثتْ الدخان ببطء وقالت:
– ماذا تقرأ الآن؟
– آخذكِ وأحملكِ بعيدا
– نيكولو أمانيتي
– كيف تعرفينه؟ هل قرأتِ الرواية؟
– ماذا تحسبني؟ مغفلة؟ ناقصة عقل؟ لا أقرأ؟

ضحكتُ فقط حينها، لم أتمالك نفسي، بينما أخذتْ هي تسحق عقب سيجارتها، وقالت بثقة:
– لا شيء يدعو للضحك لا شيء يدعو للبكاء كل شيء يدعو للفهم. صمتت قليلا ثم تابعتْ:
– لمن هذه القولة؟
– صدقا لا أعرف، ربما أمانيتي نفسه؟
– أخطأت يا أستاذ
– لمن إذا؟
باروخ سبينوزا، هل قرأتَ له شيئا؟
– نعم، رسالة في إصلاح العقل
– لكن يبدو أن عقلك لم يحرك ساكنا.

لم أرد عليها، أخذتُ ورقة وقلما وكتبتُ في رأس الورقة “ترانيم حياة”، ثم شرعتُ في الكتابة، بينما سألت هي:
– ماذا تكتب؟
– الحوار الذي دار بيننا
– وستنشره على فيسبوك؟ أنا أعرفك جيدا أيها الوقح
– نعم سينشره الوقح الذي تعرفينه جيدا على فيسبوك

شرعتُ أنا في الكتابة، بينما أخذت هي تبحث عن سيجارة أخرى، وقبل أن تغادر قالت:
– تذكر، القهوة على حسابك، أَأُستاذ.

ترانيم حياة

Exit mobile version