علم اللسانيات: المفهوم والتاريخ

لقد أصبحت اللسانيات linguistics من أهم وأبرز العلوم في العقود الأخيرة الماضية، إذ تمكنت اللسانيات – رغم حداثة سنها- من أن تصبح علما رياديا وتتصدر حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية، بل إنها اقتحمت مجالات أخرى مرتبطة بالعلوم التجريبية كالبيولوجيا والعلوم الدقيقة كالرياضيات؛ وكل هذا راجع إلى ما حققته اللسانيات من إنجازات وما توصلت إليه من اكتشافات. لذا أصبح اليوم من شبه المستحيل بل من المستحيل أن تجد متخصصا أو باحثا في علم الاجتماع أو علم النفس أو الأنثروبولوجيا أو تحليل الخطاب أو الفلسفة… غير مطلع على اللسانيات.
سأحاول في هذا المقال أن أرصد تعريفا بسيطا للسانيات وأن أحاول تقديم صورة موجزة عن تاريخها، على أن أعمل في مقالات قادمة على الحديث عن فروعها واهتماماتها وكل ما يرتبط بهذا العلم. إذ إن الهدف من هذا المقال والمقالات القادمة محاولة إثارة الاهتمام بهذا العلم بين أوساط القراء والطلاب، خاصة بين غير المتخصصين، والتنبيه إلى مكانته وأهميته.
1 مفهوم علم اللسانيات:
إن التعريف البسيط والشامل للسانيات هو اعتبارها، أي اللسانيات، الدراسة العلمية للغات البشرية أو الطبيعية، أي أن اللسانيات هي ذلك العلم الذي يهتم بدراسة اللغات البشرية دراسة علمية موضوعية. وتعرفها اللسانية البريطانية جين إتشسن (1938-…) بالقول:” يمكننا أن نُعرّف علم اللسانيات بأنه الدراسة المنهجية للغة. أي أنه هو الفرع المعرفي المعني بوصف اللغة من كل جوانبها، وبصياغة نظريات تكشف لنا عن الكيفية التي تعمل بها.” [ اللسانيات مقدمة إلى المقدمات ].
وبهذا نكون قد عرفنا مجال اختصاص هذا العلم، فاللسانيات إذاً تدرس اللغة البشرية كالعربية والإنجليزية والألمانية والكورية…، وكذلك اللهجات والدوارج، غير أنها لا تهتم باللغات الاصطناعية كالرموز المستعملة في الرياضيات مثلا، فإن تلك الرموز تعد لغة تعبر عن مجموعة من الأشياء التي اتفق عليها أهل الاختصاص في الرياضيات، غير أنها لغة اصطناعية.
وإذا كانت اللسانيات تهتم باللغات فإن هذا يستدعي تقديم تعريف للغة، غير أن هذا الأمر قد يقودنا إلى أمور ليست في صميم المقال، لذا سأكتفي بتعريف بسيط لابن جني (القرن الرابع الهجري) ذكره في كتابه الخصائص، على أن أتناول مفهوم اللغة في مقال مستقل مستقبلا. ويعرف ابن جني اللغة بالقول أنها:” أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”.[الخصائص] وبالإضافة إلى كون اللغة أصوات كما قال ابن جني فهي رموز وإشارات أيضا.

2 نظرة موجزة عن تاريخ اللسانيات:
إن البداية الفعلية والحقيقية لعلم اللسانيات لم تبدأ إلا مع بداية القرن العشرين، وعلى وجه الدقة بعد نشر كتاب اللساني السويسري فرديناند دي سوسير ( 1857- 1913) سنة 1916 على يد طلبته، خاصة الثنائي تشارلز بالي وألبيرت شيشهاي، تحت عنوان cours de Linguistique générale أي دروس في اللسانيات العامة، وقد ترجم الكتاب إلى العربية عدة ترجمات.
بعد هذا الكتاب أصبحنا نتحدث عن علم اللسانيات كعلم مستقل بذاته ومناهجه وموضوعه، ولعل جملة دي سوسير الشهيرة التي يتحدث فيها عن غاية اللسانيات بالقول أنها تتمثل في ” دراسة اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها ” [ دروس في اللسانيات العامة] تلخص علمية اللسانيات آنذاك.
من بديهيات كل علم أن يكون له موضوع خاص به ومنهج ينفرد به، وهذا ما تحقق للسانيات، إذ أصبحت اللغة موضوعا لها، وأصبحت دراسة هذه اللغة دراسة داخلية في ذاتها ومن أجل ذاتها منهجا يسم اللسانيات.
وقد عُرف هذا المنهج الذي وضعه أبو اللسانيات دي سوسير بالمنهج البنيوي، وأصبحت بعد ذلك المدرسة البنيوية في اللسانيات أهم المدارس اللسانيات وأبرزها، وقد تفرعت البنيوية بعد دي سوسير وعلى مر القرن العشرين إلى عدة مدارس وتيارات لا يسع الوقت للحديث عنها هنا.
وإلى جانب البنيوية ستظهر في خمسينيات القرن العشرين مدرسة أخرى ستُحدث ثورة حقيقية في مجال الدراسات اللسانية، والحديث هنا عن المدرسة التوليدية التحويلية بزعامة اللساني الأمريكي نعوم تشومسكي (1928-…)، والذي بالمناسبة لا زال على قيد الحياة. تشومسكي سيقلب الأمور في حقل اللسانيات مع مطلع الخمسينيات بداية من نشر كتابه ” البنى النحوية ” أو “البنى التركيبية” على اختلاف الترجمات؛ حيث سيتجاوز ما وقفت عنده البنيوية خاصة فيما يتعلق بمفهوم اللغة والوصف والتفسير، إذ ستتوالى أعمال تشومسكي وإنجازاته عبر مجموعة من النماذج والنظريات، نذكر منها على سبيل المثال: نموذج 57، النموذج المعيار 65، المعيار الموسع 72، نظرية العاملية والربط، نظرية الأثر، النحو الكلي/ أو الكوني، البرنامج الأدنى/ أو الأدنوي.
وهكذا يمكن اعتبار أن البنيوية والتوليدية التحويلية أهم المدارس اللسانية التي شكلت ملامح وأسس هذا العلم منذ مطلع القرن العشرين إلى اليوم، طبعا دون التقليل من مجهودات لسانيين آخرين.
وقبل أن ننتهي يعترضنا إشكال وجبت الإشارة إليه، ولو بشكل مختصر، سبق أن قلنا أن البداية الفعلية للسانيات كانت مع بداية القرن العشرين وأن موضوعها هو اللغة، وهنا نتسأل ألم تدرس اللغة قبل القرن العشرين؟ ألم يدرس العرب والهنود واليونان لغاتهم؟ فأين ذهب كل هذا التراث اللغوي الذي وُجد قبل القرن العشرين؟ وتكون كل هذه الأسئلة هنا أسئلة مشروعة واجب طرحها؛ وعليه يمكن القول أن اللغة شكلت ظاهرة متميزة وفريدة من نوعها منذ القدم، منذ أن وعى الإنسان هذه الملكة التي انفرد بها عن سائر المخلوقات، وبناء عليه كانت كل أمة تعلي من شأن لغتها وتعتبرها أصل اللغات، وتنظر إلى لغات الأمم الأخرى على كونها لغات ناقصة وأصوات متداخلة وأن الناطقين بها ليسوا سوى برابرة.
وعند الحديث عن الأمم والحضارات التي اهتمت بدراسة اللغة اهتماما كبيرا نستحضر كل من الهنود واليونان والعرب، وهذا لا يعني التقليل من مجهودات الأمم الأخرى كالصين وبعض الحضارات القديمة، غير أن التركيز في الغالب ينصب على هاته الأمم الثلاث.
فقد درس الهنود لغتهم القديمة السنسكريتية دراسة علمية منذ القديم، وتعد السنسكريتية لغة مقدسة باعتبارها لغة الكتاب المقدس الفيدا، وأبرز دراسة عند الهنود تلك التي قام بها عالم اللغة الهندي الكبير بانيني(القرن الرابع قبل الميلاد) في كتابه المثمن. وقد برع الهنود في الدراسات الصوتية بشكل لافت، وتقول عالمة اللسانية الصربية ميلكا إفيتش( 1923-2011) عن الهنود القدماء: “والهنود القدماء هم موضع التقدير من كثير من اللسانيين المحدثين اليوم بدرجة كبيرة، بسبب ما تمتعوا به من حس خاص بانضباط المنهج في التحليل، بوصفهم أقدم الرواد لعصر اللسانيات البنيوية والرياضية السائدة في هذا الزمان.” [ اتجاهات البحث اللساني] غير أن هذه المجهودات لم تكن تروم دراسة اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها، وإنما كان يغلب عليه الطابع الديني، إذ الأهداف من دراسة السنسكريتية عند الهنود هو فهم النصوص الدينية والحفاظ على اللغة من الضياع.
وهذا الأمر نفسه هو ما نجده عند العرب أيضا، صحيح أن التراث العربي في شقه اللغوي تراث غني جدا، غير أن الدافع الذي حرك البحث في اللغة العربية عند القدماء هو دافع ديني أيضا، فقد كان الهدف الحفاظ على لغة القرآن من الضياع وفهم القرآن فهما صحيحا أيضا، خاصة بعد توسع رقعة الإسلام ودخول الأعاجم فيه وانتشار اللحن. وقصة أبي الأسود الدؤلي( القرن الأول الهجري ) مع علي ابن أبي طالب معروفة في التراث العربي.
ولقد اهتم العرب اهتماما كبيرا بدراسة لغتهم والتقعيد لها، ولعلهم في هذا الصدد قد تفوقوا على الأمم الأخرى. ويعد كتاب سيبويه( القرن الثاني الهجري) ” الكتاب” أهم وأبرز الكتب في علم النحو، وهو الكتاب الذي وضع الإطار النظري العام لقواعد اللغة العربية إلى يوم الناس هذا، وبالإضافة إلى سيبويه في النحو نجد الخليل بن أحمد الفراهيدي( القرن الثاني الهجري) في علمي العروض والمعاجم وعلماء كبار في مختلف مجالات الدراسات اللغوية لا يسمح المجال لذكرهم هنا.
أما عند اليونان فقد كانت الدوافع وراء تحريك عجلة الدراسات اللغوية دوافع فلسفية بالأساس، فاليونان أو الإغريق باعتبارها البلاد التي ظهرت فيها الفلسفة شكلت اللغة ظاهرة من الظواهر التي امتدت يد الفلسفة إليها، لذلك نجد إشارات في كتابات كثير من فلاسفة اليونان حول اللغة من ذلك الإشارات التي نجدها في محاورات سقراط وعند أرسطو وأفلاطون والرواقيين أيضا.
وعلى هذا الأساس يتبين لنا بعض الفرق الذي ميّز اللسانيات عن الدراسات اللغوية التي سبقتها، فاللسانيات عملت على تخليص دراسة اللغة من الدوافع والأهداف الدينية أو الفلسفية إلى دراسة اللغة دراسة علمية موضوعية في ذاتها ومن أجل ذاتها.

ويمكن أن نتناول بعض الفروق الأخرى بين اللسانيات وهذه الدراسات في مقالات أخرى مستقبلا، وكذا الإشارة إلى بعض إسهامات الحضارات السابقة في مجال الدراسات اللسانية.

#مدونة_زوايا

#علوم

محسن أولاد سي علي

أستاذ مادة اللغة العربية، حاصل على شهادة الإجازة في الدراسات العربية تخصص اللسانيات، وطالب باحث في سلك الماجستير التأويليات والدراسات اللسانية. مغربي الجنسية.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *