كتاب “الوجه السياسي للثقافة العربية المعاصرة”: عن سر بقاء الأنظمة

إن كتاب “الوجه السياسي للثقافة العربية المعاصرة” هو بمثابة دراسة سوسيولوجية من تأليف الكاتب والباحث السوري “رشيد الحاج صالح”، إذ ينصرف موضوعه إلى تشريح الثقافة العربية المعاصرة، وتفكيك أنماط الوعي المتفاعلة داخلها، بهدف إعادة بنائها على أسس جديدة، تزيح الأسس القديمة التي تعيق تطويرها. و قد قسم المؤلف كتابه إلى خمسة فصول، مذيلا إياه بخاتمة استنبط من خلالها أهم الاستنتاجات والتوصيات التي تَوَصل إليها.

ففي الفصل الأول من الكتاب، يميز المؤلف بين ثقافتين في المجتمع: ثقافة مهيمنة وهي ثقافة الفئات الأقوى والأكثر نفوذًا داخل المجتمع، أي السلطة والنخب المتحالفة معها، وثقافة مهيمَن عليها، والمقصود هنا ثقافة الفئات الأضعف بالمجتمع، أي ثقافة الجماهير أو عامة الناس، والتي تتصف، بحسب الكاتب، بكونها ثقافة عاطفية وغير عقلانية، لكونها سهلة التصديق والتأثر والانخداع، وهذا يعود إلى افتقارها للحس النقدي، وذوبان شخصية الفرد في الجماعة، بما يؤدي إلى نشوء ما يسميه “غوستاف لوبون”، في كتابه المشهور” سيكولوجية الجماهير”، بالنفس الجماعية التي تملي على الفرد تبني سلوكيات وأخلاقيات معينة. 

أما بخصوص الفصل الثاني من الكتاب، فتقوم فرضيته الرئيسية على أن المعرفة ذات مضمون سياسي في المقام الأول، ذلك أن التمثلات الدينية والأخلاقية والقيمية السائدة بمجتمع ما، يَصعب النظر إليها من زاوية نظرية وتأملية بحتة، وإنما هي نتاج الظروف الاجتماعية والسياسية، إذ يسعى كل نظام سياسي إلى خلق نظام معرفي مواز، فالسلطة لا تكتفي بتوظيف وسائل العنف والإكراه المادي لضمان بقائها ورسوخها، وإنما تجهد في إشاعة مجموعة من القيم والمعتقدات والتمثلات الاجتماعية التي تشرعن وجودها. وكمثال على ذلك، غالبا ما يتم ربط مفاهيم وقيم بعينها كالديمقراطية والحرية والمواطنة بالعمالة للغرب، وعدم احترام خصوصية المجتمعات العربية والإسلامية، بغرض تثبيت هيمنة النظام التسلطي.

وفي الفصل الثالث من الكتاب، يناقش الكاتب قضية الصراع السياسي على الدين، أو بالأحرى، تشكيل الوعي الديني داخل المجتمع، حيث لا يمكن النظر إلى هذا الأخير على أنه نتاج فهم وعلاقة مباشرة بالنصوص التأسيسية للإسلام (القرآن والسنة)، وإنما يخضع بدوره لتوظيفات تنطوي على أهداف وغايات سياسية، فالتحكم في الوعي الديني للناس يعني الهيمنة على المجتمع وتدجينه.

وفي هذا الصدد، يميز الكاتب بين ثلاثة أنماط للتدين تتصارع فيما بينها على الهيمنة السياسية والاجتماعية، بدءًا من الإسلام الرسمي، أو ما يعرف تاريخيا بدين الفقهاء، وهو النموذج الذي تعتمده السلطة السياسية، وينتشر على وجه الخصوص في المدن، وهنا يشدد الكاتب على أن الفقه مفهوم سياسي لا ديني، إذ لم يكن ثمة وجود لفئة الفقهاء في صدر الإسلام، بل ارتبط ظهورها تاريخيًا بالسعي في تمكين الحكام ومنحهم الشرعية الدينية. وفي مقابل الإسلام الرسمي، نجد ما يُعرف بالإسلام الشعبي، الذي ينتشر، أساسًا، في المناطق الريفية والصحراوية، ويولي أهمية كبيرة للمشايخ والمتصوفة وزيارة قبور الأولياء والصالحين، كما يتسم نمط التدين ذاك، في الغالب، بعدم الانشغال بشؤون السياسية، والاكتفاء بممارسة الطقوس والشعائر الدينية.

وصولًا إلى الإسلام الحركي، وهو النموذج الذي تتبعه تيارات الإسلام السياسي، المنتظمة في إطار أحزاب سياسية وجمعيات دعوية، والتي ارتبطت نشأتها، في مطالع القرن العشرين، بالسعي إلى أسلمة الدولة والمجتمع، من خلال المناداة بتطبيق الشرع في كافة مجالات الحياة. وفي هذا الصدد، يضيء الكاتب على المأزق الذي وقع فيه شعار “الإسلام هو الحل”، الذي تبنته تلك الحركات، والمتمثل في عدم وجود نظرية سياسية في الإسلام، تحدد شكل الدولة ونظام الحكم، لأن الإسلام – كغيره من الديانات السماوية – يُعنى بالإنسان وعقيدة الفرد في المقام الأول، لا بشؤون الدول والإمبراطوريات، وهو ما يفسر انقسام الفكر الإسلامي إلى فرق ومذاهب متناحرة، تدعي كل منها تمثيلها للإسلام الحق.

أما الفصل الرابع للكتاب، فيتناول مسألة الصراع السياسي على العلم، إذ ينظر المؤلف إلى انتشار طرق التفكير اللاعلمية واللاعقلانية بالمجتمع، على أنها قضية سياسية واجتماعية، لا علمية، بدليل أن ثمة العديد من المثقفين العرب المحدثين والمعاصرين، الذين تَوَهموا أنه بمجرد انتشار وسائل نشر المعرفة، من مدارس وجامعات وإعلام، ستتسرب أساليب التفكير النقدي والعقلاني تلقائيا إلى عقول الناس، لكن ما حدث هو أنهم أخذوا بمنجزات العلم في كافة مجالات حياتهم (من طريق الإقبال بنهم على استهلاك المنتجات التكنولوجية الحديثة)، لكن طرق تفكيرهم ظلت لاعقلانية. ومن بين الأساليب التي تلجأ إليها الأنظمة لمحاصرة التفكير العلمي والنقدي، نذكر إفراغ العلوم الإنسانية من محتواها، وهذا يُعزى إلى أنها بخلاف العلوم الطبيعية، ليست صماء ومجردة، وإنما لها وظيفة اجتماعية وسياسية، تتجسد في تحرير الإنسان، وتمكينه من الإحاطة بجوهر المشاكل والأزمات التي تحيق به.

وفي الفصل الخامس والأخير، يستحضر الكاتب إشكالية تَعَلق الثقافة العربية المعاصرة، وجدانيًا وعاطفيًا، بتراث عصر الخراب، كما يصفه ابن خلدون، والذي يبدأ من النصف الثاني للقرن الخامس الهجري، حين تفشى الظلم والكبت السياسي، وسادت الفتن الدينية والمذهبية، إذ لاحظ المؤلف بأن معظم كتب التراث المتداوَلة اليوم، تعود إلى ذلك العصر، في مقابل تجاهل شبه كلي لتراث عصر الازدهار، أو العصر الذهبي للإسلام، والذي يغطي القرون الأربعة الأولى من الإسلام التي عرفت نوعا من التعددية الفكرية والثقافية. وذلك مرده، بنظر الكاتب، إلى سعي الفئات المهيمنة إلى تقديم الإسلام بما هو تعاليم تدعو إلى الطاعة العمياء، والتعصب المذهبي، والخلاص الفردي الروحي (كتب وأدبيات المتصوفة).

وفي ختام الكتاب، أخذ المؤلف في عرض بعض التوصيات، لعل أهمها ضرورة انبثاق دور جديد للمثقف، يتجاوز الأدوار الكلاسيكية المرسومة له، فالمثقف أمسى مطالَبًا بإعادة بناء الحقائق والمفاهيم، وهدم البديهيات والأحكام القطعية والمسبقة، بما يسهم في إنضاج شروط وعي معرفي جديد، يتحلى بالمرونة والروح المتفتحة والبناءة، القمينة بالتصدي للإشكاليات التي تواجه الثقافة العربية المعاصرة .

Exit mobile version