مراجعة كتاب “علم النفس السياسي” لدايفيد هوتون

كتاب مهم رغبت في مشاركته معكم، يتناول موضوع علم النفس السياسي، بما هو أحد التخصصات المعرفية التي تمزج بين مناهج علم النفس والعلوم السياسية في دراسة السلوك السياسي للنخب والجماهير، إذ يعرف الكاتب السلوك السياسي بأنه “كل نشاط يرمي إلى تحقيق غاية سياسية، سواء أخذ شكلا متطرفا كالإرهاب وأعمال العنف، أو معتدلا كالاختيارات ذات الصلة بالتصويت الانتخابي” .
وفي هذا الصدد، يميز الكاتب بين مقاربتين شائعتين في التحليل النفسي للسلوك السياسي خاصةً، والإنساني عموما. فثمة المقاربة النزوعية التي تفسر سلوك الفرد استنادًا إلى عوامل ذاتية، تحيل إلى الخصائص الشخصية وما يحمله الفرد من نوازع واعتقادات ذاتية، إلى جانب المقاربة الموقفية التي تقر بأن العوامل البيئية المتمثلة في الضغوط الموضوعية التي يواجهها الفرد في محيطه هي المحدد الأساسي لسلوكه .
وقد كرس المؤلف

الباب الأول

من الكتاب لإضاءة أهم المقاربات الموقفية، بدءًا من المقاربة السلوكية لرائدها “سكينر“، والتي تفترض بأن الإنسان يولَد كصفحة بيضاء، أي مُفرَغًا من الصفات الموروثة والنوازع المسبقة، وبالتالي، فهو يظل قابلا للإشراط (conditioning) أي القدرة على توجيه سلوكه من طريق التحكم في البيئة المحيطة به. وتشدد المقاربة السلوكية على أن الإشراط عادةً ما يتم بطريقة اعتباطية في المجتمع، لذا فهي تقترح بأن يتم تنظيمه (= المجتمع) بطريقة ممنهجة بواسطة السلطة، قصد الحد من مظاهر السلوك الإجرامي والعنيف داخل المجتمع، وإنْ كانت هذه المقاربة تطرح معضلة أخلاقية، بحسب المؤلف، لأنها تسلب من الإنسان حرية الإرادة والاختيار، وتشرعن لسياسات الأنظمة الشمولية.
وعطفًا على المقاربة السلوكية الموقفية، يمكن الإشارة أيضا إلى نموذج علم نفس الطاعة، المستلهَم من تجربة “ستانلي ميليغرام” الشهيرة، التي خلص فيها إلى أن الأشخاص قد يميلون إلى الامتثال لأوامر سلطة يرونها شرعية، ولو كانت تخالف مبادئهم واعتقاداتهم، وهو ما يفسر بعض مظاهر السلوك السياسي المتطرف كالإبادة والقتل الجماعي. دون إغفال نموذج الصناعة الجماعية للقرارات أو التفكير الجمعي، بحسب تعبير “جانيس“، الذي يفترض أن الفرد قد يتبنى وجهات نظر مخالفة، أثناء الصناعة الجماعية للقرارات، للآراء التي قد يتبناها في حالة ما إذا عمل بمفرده، ومن ثم، فإن اتخاذ القرار بصفة جماعية قد يحول دون بناء قرارات عقلانية وموضوعية، لأن الهاجس، في هذه الحالة، يكون هو الوصول إلى الإجماع والحلول الوسطى، مما يعيق تقويم الخيارات والبدائل المتاحة تقويما ناجعا.
أما بخصوص

الباب الثاني

من الكتاب، فقد كرسه المؤلف لعرض أهم المقاربات النزوعية، وعلى رأسها مقاربة السيرة النفسية التي تشير إلى أن الخصائص النفسية والسيكولوجية للقادة السياسيين، التي ترتسم معالمها منذ مرحلة الطفولة، لها دور في التأثير على قراراتهم واختياراتهم، إضافة إلى دور الاعتقادات الإيديولوجية والفكرية التي يؤمنون بها كمحدد أساسي لسلوكهم السياسي، مثلما يقر بذلك نموذج تحليل عقيدة صانع القرار.
مرورًا بالمقاربات المعرفية النزوعية التي تركز على العمليات الذهنية المعتملة في عقل الإنسان، والتي يتم من خلالها معالجة البيئة المعلوماتية. وفي هذا الصدد، وجب التمييز بين مقاربتين معرفيتين أساسيتين، وهما مقاربة الإنسان الاقتصادي، المشتقة من الاقتصاد الجزئي، وتفترض أن الإنسان كائن عقلاني بطبعه، بحيث يسعى إلى كسب الثروة وتعظيم المنفعة الذاتية، إذ يوازن بين الفوائد والتكاليف المتوقعة لتقرير البديل (من بين مجموعة من البدائل والخيارات الممكنة أثناء اتخاذ القرار) الذي يجلب أكبر قدر من المنافع. أما مقاربة الإنسان النفساني، فهي على النقيض من المقاربة السابقة، تقر بأن الصفات العقلانية محدودة بحدود قدرة العقل الإنساني على معالجة المعلومات. فالإنسان بخيل معرفيًا، حيث لا يميل إلى النظر في كل الخيارات المتاحة، ويظل عرضة للتأثر بضغوط وإكراهات المحيط.
لكن هذا النموذج التحليلي يظل قاصرا، برأي المقاربة العاطفية، التي تؤكد على دور العواطف والانفعالات في تحديد السلوك الإنساني، فلا يمكن فصل الإدراكات المعرفية الباردة عن الإدراكات الساخنة أي العواطف، بالرغم من أنه ثمة تباين وسط مؤيدي هذه المقاربة في تقدير طبيعة تأثير العواطف والانفعالات في نوعية القرارات المتخذة، فمنهم من يجزم بأن العواطف لها مفعول سلبي، لأنها تُرَسخ صورنا النمطية وأحكامنا المسبقة، مما يحول دون الوصول إلى أحكام وتقويمات موضوعية. لكن يوجَد اتجاه آخر وعلى رأسه “دماسر” يؤكد بأن العواطف تسهم في عقلنة القرارات والخيارات المتبعة، إذ خلص بعد قيامه بإحدى التجارب بأن الأشخاص الذين يعانون برودا عاطفيا، عادةً ما يتخذون قرارات متهورة وغير محسوبة، لعدم مبالاتهم بتداعياتها وانعكاساتها على مشاعر الآخرين.
ويبدو بأن الكاتب يتبنى موقفا تركيبيًا وتوفيقيًا يستدخل المقاربتين النزوعية والموقفية في تفسير السلوك السياسي، إذ خصص الباب الأخير من الكتاب لمحاولة تفسير بعض الظواهر السياسية، كعلم نفس الانتخاب، والقومية، والعنصرية، والإبادة، والإرهاب، والعلاقات الدولية، بتوظيف نماذج التحليل النفسي للمقاربتين معًا .

Exit mobile version