الهجرة والتواصل الثقافي

تبقى الهجرة ظاهرة إنسانية ضاربة في القدم, بحيث ارتبطت الشعوب والأقوام بها منذ هجرة آدم وحواء، “فالواقع الاجتماعي في أصله قيمة ثقافية خرجت إلى حيز الوجود” هكذا يرى مالك ابن نبي عندما يحدثنا عن الثقافة بوصفها الناقد والممثل لأفكار الشعب،وأفكار القادة معا فهما عنصران يغذيان عبقرية الحضارة القائمة على المنهج الأخلاقي والذوق الجمالي والصناعي والمنطق العلمي،ولعل من أهم مؤثرات تلك الثقافة والذي سيدخل في تشكيلات تلك الحضارة و شكيلاتها المتعددة هو الهجرة التي تقوم على النقل الثقافي عبر الفرد آو الجماعات التي تنتقل من مكان إلى أخر والذي يمثل قدر الأمم على مر العصور.

إن ظاهرة الهجرة أسهمت في أعمار الأرض، وكان لها عبر الحقب الزمنية المتعددة فضل كبير في نقل الخبرات والتجارب الإنسانية، وقامت على إثر ذلك جسور التواصل والتعارف وتبادل المعارف وبالتالي تلاقح الثقافات، وعليه سنجد أن البناء الثقافي الجامع بين الأمم قام في الأصل على تلك الهجرات.
وبالتالي الهجرة ظاهرة قديمة يتجدد النظر إليها بتجدد القضايا والإشكالات التي تطرحها فتظهر على المستوى الثقافي بشكل خاص، لأنها تدل على نقل الثقافات والفكر وبالتالي التراث الثقافي كله المتمثل في الأذهان البشرية الذي يشكل الموسوعة الثقافية من بلد إلى أخر أو من مجتمع ثقافي إلى أخر وعلى الرغم من الإشكالات المتعددة التي تحيط بالهجرة وتأثيرها على الثقافة، والمجتمع والاقتصاد والسياسة، إلا أننا سنطرحها هنا بوصفها مؤثرا على التراث الثقافي وتطوره وهويته.

المغرب و الهجرة:

المغرب كبلد عبور للمهاجرين سواء أبنائه المهاجرين إلى أوروبا أو كجسر عبور للمهاجرين جنوب الصحراء, مما جعله جسرا للضفة الأخرى، بلد اقامة لبعض المهاجرين الذين قررو المكوث به والاستقرار داخله كمواطنين مغاربة.
في الوقت الذي انصب فيه اهتمام المغرب على تدبير هجرة مواطنيه بالخارج، والانكباب على إعداد سياسة عمومية تستجيب لحاجياتهم، ويوفر لهم الدعم والمؤازرة أمام ما يعترضهم من مشاكل في بلدان الاستقبال أمام صعوبات الاندماج داخل ثقافة البلد المستقبل لهم، في موازاة ضمان ارتباطهم بالمغرب كهوية وجذور ثقافية دينية اجتماعية، ووطن، وقيم عن طريق خلق وإنشاء مؤسسات دستورية تعنى بذلك، فإن موقع المغرب الجغرافي، القريب من أوروبا، وطباع المجتمع المغربي المتسامح، جعلته نقطة جذب ومسار مفضل لدى المهاجرين الأفارقة، الذين تجمعوا في غابات محيطة بمدن شمال و شرق المغرب، ترقبا لفرصة الهجرة إلى أوروبا ” الفردوس الأوروبي“.
غير أن عسر وشدة المراقبة على الحدود الخارجية للدول، وسنها تشريعا، واتخاذها سياسة موحدة في ميدان الهجرة، وخلقها وكالات مختصة في تلك المراقبة “فروتك”، وتعاقدها مع دول جنوب المتوسط، والساحل وجنوب الصحراء في أفريقيا، ومنها المغرب في إطار التدبير التعاوني للهجرة، من أجل محاربة الهجرة غير “النظامية”، كل ذلك جعل المغرب يتحول إلى بلد استقبال.
غير أن المغرب الذي نهج خطة سياسية واستراتيجية جديدة لتمركز قوي في أفريقيا، وحاجته إلى ضمان ود الدول الأفريقية، وحاجته إلى فك كل ألغاز العملية الأمنية في إطار نهجه الاستباقية، ومراعاة لالتزاماته بمقتضى القانون الدولي، وتقديره للجانب الإنساني والتضامني، فقد أقر بوجود أعداد من المهاجرين جنوب الصحراء فوق إقليمه يقدرون بالآلاف، وأعلن منذ 2014 عن نهجه سياسة استثنائية في ميدان الهجرة، بفتح الباب لتسوية الوضعية الإدارية للمهاجرين فوق ترابه، وهي الآن في نسختها الثانية منذ منتصف دجنبر 2016.
إلا أن هذا التطبيع لأوضاع المهاجرين الإدارية، لن يكون مكتملا إلا إذا أقترن بإجراءات وتدابير مادية، في إطار المنافذ الحقيقية للاندماج، لكفالة حقوق وحريات المهاجرين، وأبنائهم في التعليم والشغل والصحة والسكن وغيرها، وهي حقوق لها ارتباط وثيق بالموارد المالية للمغرب.
بيد أن الآني يقتضي القيام بحملات توعوية لدور الهجرة والتنوع في غناء المجتمعات ومناعتها، درئا لأعمال عنصرية قد تتولد عن فعل الاحتكاك اليومي، ونفس التحسيس مطلوب بين المهاجرين ليراعوا قيم ومشاعر مجتمع الاستقبال المغربي في سلوكهم وتصرفاتهم درئا لسقوطهم في المحظورات، التي يعاقب عليها القانون. فالهجرة معادلات صعبة، وفي خضمها يوجد الإنسان، الذي يجب أن يستأثر باهتمام الجميع.

ما علاقة الهجرة بالهوية؟

إن المفارقة التي يقدمها مفهومي (الهجرة) و(الهُوية) تعكس المأزق الذي تقع فيه المجتمعات التي تعاني من الهجرات – سواء أكان منها أو إليها – ؛ ذلك لأنها تصبح مجتمعات تتماس ثقافتها مع الثقافات الواردة إليها بحيث تبحث كل ثقافة من تلك الثقافات عن خاصيتها المطلقة التفرد، وهي من ذلك ستنظر إلى الثقافات الأخرى بأنها مفسدة لـ (نقاوتها) الأصيلة، ومن هنا سنجد أن تلك الثقافات إما أن تبتعد الواحدة عن الأخرى بحيث تتحاشى الاختلاط، وإما أن تتفاهم مع بعضها تفاهم لا يخل ولا يسقط الخصائص المميزة لكل منها، وإما أن تندمج مع بعضها بحيث تتماهى تلك الخصائص على مر الأزمنة ويتلاشى ذلك الحد الفاصل بينها. إن ظاهرة الهجرة في المنطقة العربية بشكل خاص لها أثر كبير في تشكُل (الهُوية) الوطنية، ففي منطقة البحر الأبيض المتوسط نجد ظواهر مهمة للتآلف الثقافي بين السكان (الأصليين) والثقافات التي استوطنت المنطقة منذ زمن يطول أو يقصر، وهي ظواهر مؤثرة على المستوى الثقافي ومن الأهمية دراستها وتحليلها؛ ذلك لأن (الهجرة) واحدة من الظواهر التي انشغل بها العلماء والدارسون، لما تمثله من إشكال قد يفترض البعض أنه إشكال مرتبط بهوية المجتمعات التي تعاني الهجرة؛ وهذه الهوية تمس الجانب الثقافي في المستوى الأول، فهو جانب يعني الموسوعة المجتمعية التي تستند إليها في إنتاج هويتها الوطنية.

فعلى الرغم من أن المجتمعات تتأثر بالهجرة والطوائف الوافدة إليها والتي تندمج أو تحاول الاندماج في ثقافتها المحلية بحيث يكون لها أثر على الثقافة المحلية الداخلية وديناميكيتها؛ إلاَّ أن هناك من يعتبر أن تطور المجتمع الإنساني يحصل انطلاقا من ذاته؛ ذلك لأنه ناتج من التطور الداخلي للمجتمع، وتبقى التغيرات المحدثة من الخارج غير ذات أثر مهم في ميزة المجتمع وخصائصه؛ ويمكننا أن نرى أن هناك مجتمعات ترفض الاعتراف بتلك الثقافات التي وفدت إليها، أو أن تلك الثقافات الوافدة لا تريد الاختلاط بالثقافة الأصلية أو المحلية، وبالتالي يصبح لدينا مجموعة من الثقافات المتمايزة على المستوى الظاهر.

وفي مثل هذا الوضع سنجد أن تلك المجتمعات ستلجأ إلى تصنيف ثقافاتها بما يمكن افتراضه (نقي / غير نقي) أو (أصيل / غير أصيل ((دخيل))، غير أنها على المستوى القادم ستلجأ إلى تصنيف مواد من تلك الثقافات تحت ذلك التصنيف، مستغنية بذلك عن تصنيف الثقافة كلها، وهو مؤشر مباشر نحو التآلف الثقافي الذي بدأ يتشكل بينها.
إن الإشكال الذي نعرضه هنا نابع من كون التراث الثقافي ممثل لهوية المجتمعات، والذي يمثل الامتداد الحضاري لذلك الإرث الذي استمر عبر قنوات زمنية متعددة؛ والسؤال الذي نطرحه مرده إلى ذلك التنازع – إن صح لنا التعبير – بين الثقافات في المجتمع الواحد وهو تنازع مشروع وصحي على المستوى المجتمعي، ولعلنا كثيرا ما نجد أن الأمم عندما تدرس أشكال التراث الثقافي ومواده على المستوى التاريخي (الماضي)، فإنها تُعيد كل منها إلى أصله من حيث فوائده إلى المجتمع فتقول هذا من أصل فارسي أو عربي أو هندي أو غير ذلك، على الرغم من أنها قد تطالب بانتسابه إليها على المستوى التاريخي (الحاضر) بعد أن استقر على ثقافتها منذ سنوات من الزمان، مما قد يدخل المجتمعات في إشكال نسبة تلك المواد بين الموطن الأصلي والموطن المستقبل، ولعل هذا ظاهر على مستوى المجتمعات المتجاورة أكثر من غيرها،على الرغم من أننا قد نجده أيضا بين مجتمعات متباعدة مكانيا وحضاريا.

إن الهجرة التي نطرحها هنا هي هجرة البشر بفكرهم الوطني إلى أوطان أخرى سواء أكانت هذه الهجرة طوعية أم جبرية سواء أكانت من قناعاتهم الشخصية أي دراسة أم بحث عن عمل، حياة أفضل أم كانت مفروضة عليهم أي حروب أو أمراض و أوبئة أو مجاعة و كوارث طبيعية أم هي حروب حضارية دينية طائفية سببت في الهجرة ككل، فإنها ستؤدي إلى النتائج نفسها، لأنها ستشكل اندماجاً جديدا في الفكر المجتمعي كما هو الحال في مجتمعات المغرب العربي إذا ما أردنا تقريب الصورة، فمجتمعاتنا تمثل مجموعة من العلاقات المجتمعية المتداخلة حضارياً وفكريا وبالتالي ثقافياً، ومن هنا نزعم أن هذه الهجرة تفرز ظواهر ثقافية جديرة بالدراسة والتحليل لأنها مؤثرة تأثيرا مباشراً على الثقافة بشكل عام والتراث الثقافي بشكل خاص.

الهجرة والتواصل الثقافي

Exit mobile version