مقام الرضا بالله

بين التحقق والتوهم

تعريف مقام الرضا بالله

اعلم يرحمك الله أن مقام الرضا بالله مقام عال جدا، باعتبار مراتب الطمأنينة التي يتدرج فيها العبد سيرا إليه، والرضا  بحكمه وقدره وليس لشيء آخر.

وهذا المقام لا يبلغه إلا الصفوة من عباده الراضين بحكمه، والموفق من وفقه الله له وذلل له مسالك الوصول وصرف عنه حواجز البلوغ، وهيأ له حوافز الخُلص، ومن اعتلاه فقد نال الشرف وحقق العبدية لله عزوجل حقا ويقينا،  واطمأن قلبه وسكنت جوارحه؛ لما له الناس يتلهفون وما لأجله يركضون، وما هو محقق مخطوط في اللوح المحفوظ، ويا ليتهم علموا ذلك وانصرفوا لغيره، فوعد الله محقق وقوله مصدق. يقول تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} (سورة الذاريات – الآيتان 56 و57).

ومقتضى ذلك أن الله سبحانه وتعالى ضامن لعباده الرزق، باسط لهم سبله في كونه، فهو  يدبر مملكته كيف يشاء؛ هو الرازق الواهب والمعطي والمانع والنافع، يفعل في ملكه ما يشاء {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الآية 23 من سورة الأنبياء)، سبحانه جلَّ في علاه، فمن أدرك عمق هذا المعنى يا صاح فقد عرف معنى الاستخلاف حقيقة، واعتلى المقام ودخل المحراب، وشرع في  التعبد وسعى بعد ذلك بكل ما أوتي من قوة لتحقيقه، وإن تعسر الأمر عليه كليا يا صاح
حققه ولو جزئيا، وهذه طبيعة البشر كما تعلم يا صاح !! قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (الآية 286 من سورة البقرة)

ولا فرق عند الداخل في مقام الرضا بالله حقيقة لا ادعاء؛ بين قيام الليل وقيام النهار، بين الذكر بالليل والذكر بالنهار، بين التسبيح بالليل والتسبيح بالنهار.

ذاك عين الفطرية يا صاح، التي فطر الله عزوجل عليها العباد، قال عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (سورة الأنعام – الآيتان 162و163).

بذلك الفهم النقي الصافي العذب الزلال يا صاح الذي قرر سلفا، يتحقق وعد الله سبحانه وتعالى. إذِ الرضا بالله شرط في تحقيق أمانة الاستخلاف، تلك الأمانة التي اختارها البشر على غيرهم من المخلوقات، وقد نالوا  شرفها وعلموا ثقل حملها، وأدركوا خطورتها حتى استحقوا  معنى الخلافة.

استخلاف الإنسان

والخلافة يا صاح شرف ما بعده شرف، فأنت خليفة الله في أرضه، تطبق أحكامه وتستغل خيراته، وتتأمل في مخلوقته، وتصول وتجول في أرضه وتستكشف يوما بعد يوم أسرار كونه، فأنت الخليفة يا صاح، أفلا تكون راضيا به؟! فتأمل !!
يقول الله تعالى: {وَٱذْكُرُوٓاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ} (الآية 74 من سورة الأعراف) فهذا هو ما أنيط بهذا العبد الضعيف شكلا ومضمونا يا صاح، ولكي لا يحتار الإنسان ويتيه في أزقة الضلال وشوراع الجهل، جعل له سبحانه هذه الصفة، أعني صفة العبدية تشريفا له وتبجيلا، رعاية وترشيدا، مثل ذلك الابن المحاط برعاية أبويه أشد الإحاطة ولله المثل الأعلى، فما أشرف أن يكون هذا المخلوق عبدا لرب عظيم كريم، فطوبى لمن أدرك هذا، وشعر قلبه بهذا، وخضعت واستجابت جوارحه لهذا،  فمثله قطعا يذوق معنى الجلال والجمال، ويكون سائحا في مملكة الرب سبحانه.

وأنت تعلم يا صاح أن السائح يستمتع بكل التفاصيل في سياحته، حتى وإن اعتاد في حياته اليومية على رؤية تلك الأشياء التي هو ذاهب لرؤيتها، فالسياحة تجرد، والسفر سفر الهموم لا سفر الأماكن، فكذلك ينبغي أن تكون يا صاح، سائحا مسافرا في أرضه سبحانه وتعالى مطمئنا راضيا، مستشعرا بما وهب المالك سبحانه لعبده المملوك، مقبلا عليه غير مدبر  راغبا في عطائه وفتوحاته، سائرا بين خلقه صالحا ومصالحا، مسبحا ساجدا بالليل، داعيا مصلحا بالنهار، تبكي في الظلام، ويشع نور علمك بالنهار، ترفع أكف الضراعة لخالقك بالليل وتبسط يدك لعبيده عونا بالنهار.

مقام الرضا بالله يا صاح
نعم !
أعلى المقامات وأشرفها، وليس سبة كما يحلو للبعض أن يصف الداخل فيه بأوصاف لا تليق، فمثل أولئك  يتصفون  بالجهل المركب، جهل بالمقال الذي رائحة النتانة تشم فيه، وجهل بتحقيق المقام لأنهم اختلطت عليهم الطهارة بالنجاسة، و نطقت أفواهمم بما لا يليق ، ولم  يتحققوا بالمقام لأنهم ليسوا أهلا له، وياليتهم عرفوا  أن هذا المقام، قد تعرض لما تعرض له -مقام الرضا- من تشويه وتحريف وتدنيس بفعل عدم إدراكهم الإدراك الصحيح لجوهره، وقد قرر في علم الأصول أن “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”، وقد فعلت فئة من فئاته ما لا يليق به، فلا تعمم، فالتعميم لا يليق بك في هذا المقام !!!

صورة تعبيرية

ولقد سوغ  المتطفلون على المقام يا صاح، الجهل والفقر والكسل والخمول، وهذا مخالف تماما لشرف المقام ومقتضاياته كما تعلم، فمن أمعن النظر يا صاح بعين البصيرة وبقلبه اليقظ، أدرك أنه مقام الجد والعمل والسعي نحو تلك المرتبة العظمى -أعني الاستخلاف- كما بينت قبل.

وانظر يرحمك يا صاح إلى هذا  التوجيه النبوي لهذا المقام الرفيع : يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:《اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس》رواه أحمد.

لو استشعرتُ أنا وأنت عمق هذا التوجيه النبوي، لما ضاقت بنا يوما ولما أصابنا سعار النفس والهوى. إقرأ إن شئت ثم أعد القراءة بتمعن لهذا التوجيه البليغ المتصور ذهنا بلاشك، والمتحقق واقعا بلا ريب تكن أعبد الناس! تكن أغنى الناس!

نعم كلمات تستشعر ببرودتها و سلامتها إذا  تلقيتها نقية طرية. وإني لأراك سائلا عن كيفية التلقي؟ فخذه بإيجاز، واقصد مظانه إن كنت تريد الازدياد، وإذا بدأت فأتمم، فقد قال أبو الطيب المتنبي :

ولم أر في عيوب الناس عيبا
                           كنقص القادرين على التمام

صفات التلقي

أما التلقي فلا يكون إلا إذا صفي جهاز الاستقبال من الشوائب والحواجز ومقدار البث؛ فتتلقى كلمات الله نقية صافية كما هي في الوحي قرآنا وسنة وبفهم العلماء من الأمة سلفا وخلفا، تتلقى ذلك كما تلقاها الخاصة من عباده، والصفوة من الصالحين من أمته، من أدرك عمق هذا يا صاح ما عرف القلق في حياته قط، ولا ازدجر من حوادث الزمان، وسراب الأيام وخيانة الخلان، ولاعتلى صدقا ويقينا مرتبة الرضا بالله سبحانه وتعالى.

فإذا عرفت هذا يا صاح فالزم، فالطريق طويل ومليء بالأشواك، والعمر قصير ولكن اللقاء جميل، وقديما قيل: من عرف ما قصد هان عليه ما وجد.

اللهم اسق عبادك وبهيمتك وانشر رحمتك وأحيِ بلدك الميت، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، يا أرحم الراحمين يارب العالمين.

مقام الرضا بالله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *