ذكرى السنة الثالثة

مشاهد من عيادة طبية

مرّت السنة الثالثة و لم يبقَ لي منها إلا الذاكرة والذكريات. أوثقها كعادتي وأحتفظ بها، لأزورها كلما انتابني الحنين إلى وداعة الماضي. كنت قد زرعت حلما وتعهدت بالرعاية، و كان لا بد من توفير ما يلزم كي يغدو بهيا وردي البتلات.
وقفت على أعتاب السنة الجديدة، وقد قضيت اثنتين سابقتين: كانت أولاهما مُرحّبة وديعة، أما الثانية فحملت من الشراسة والحزم ما يكفي كي تمحو شقاوة الصبا وترسم أولى معالم النضج والجدية على الطريق الطويل.
النظريات وحدها لا تكفي، الكلمات والجمل والأوراق والأقلام لا تكفي.. من المُلحّ والضروري جدا، أن ننتقل إلى التطبيق والتدريب على أرض الحقيقة والواقع!
جئت أنا أحمل ما علق بي مما فات ، بكل العبارات الطويلة وحروفها المتداخلة التي تعثر لساني مرارا قبل أن ينجح في نطقها ، الليالي البيضاء الشاحبة، الهالات السوداء القاتمة، و بسمة أمل تلقي السلام..
بحماسة المبتدئين، وفضول المتعلمين، خطوت داخل المشفى أعانق وزرتي البيضاء، وأحمل مذكرتي وقلمي وسماعتي الطبية،وكل ما استدعته جذوة الحماس من أجل التعلم والاستكشاف، ثم مضيت لأرفع اللثام عن الخبايا القابعة هنا.
هنا وجب علي استحضار ما درسته في السنتين الغابرتين، والذي كثيرا ما فضل أن يتلحف النسيان تحت وطأة التوتر والترقب: علم التشريح والوظائف والمناعة والكيمياء الحيوية وغيرها.
داخل الجسد لكل شيء مكانه،ملمسه، معدلاته ، ألوانه وأصواته. ميزان رصين حيث ضعف الإنسان وموطن قوته: تفاصيل دقيقة تسكننا، كثيرا ما تسمرت أمامها مندهشة فاغرة الفاه.

إنك بخير ما دام كل شيء على حاله، لكن إن اختل التوازن أو عبثت بأي شيء، فأنت بذلك قد حررت عفريت السقم من قمقمه،عندها قل للمرض: مرحبا، هلمّ إلي أيها الضيف الثقيل !

في هذا المكان، رأيت الدموع و سمعت الضحكات. شاهدت الأطفال والشيوخ والشباب، كل يحمل قصته وعلته، رأيت المرض والشفاء. هنا رأيت شبح الموت يتربص في الأركان، وشاهدت انبثاق الحياة من تربة المأساة.. هنا رأيت حقيقة الإنسان وتناقضاته السرمدية، وهنا تجلى النقص البشري بكمالته المثلى!
هنا، تتكالب عليك المشاعر والأفكار وتشن عليك حربا شعواء تلزمك بطرح السؤال المخيف: هل يجب أن تواصل ؟
إن انتصرت في حربك، تدرك آنذاك أن الطبيب ليس مجرد وزرة بيضاء و بضع كلمات معقدة وعلامات عالية ، أو آلة تسجيل تجيد حفظ المعلومات ولفظها على ورقة الاختبار. ستلقن دروسا لا يمكن لأي امتحان أن يعلمك إياها !
داخل هذا المكان، عرفت نعمة الصحة وأدركت وجوب الحمد، و هنا هِمت بالطب، و زدت غرقا في بئره السحيق..!
لفظت السنة الثالثة أنفاسها الأخيرة، بينما الأخريات يتأهبن للشهيق الأول. وها أنا ذا أضيف فصلا آخر وانتظر بقية الحكاية..

ندى شحيما

طالبة طب في طور التكوين، مدونة في البدايات، محبة للقراءة و الكتابة و ما قرب إليهما من سبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *