اللعب والطفولة

الطفولة سر جميل وغامض، يكمن هذا السر في تفاصيلها التي لا يحظر فيها الشيطان. في تلك السنوات الأولى من حياتك لا تعرف الشيطان ولا تعلم شيئا عن عمله وعن ماهية هذا المخلوق، تتصوره على هيئة وحش مخيف بملامح مرعبة لكي تتجنبه ولكن لن تلتقي به أبدا أو بشكل أدق لن تراه بتلك الصورة التي رسمتها في مخيلتك، تعرفه فقط حين تكبر.

أنت في الحقيقة لا تستطيع تمييزه بوضوح لأنه ليس شخصا معينا. حين تكبر تدرك جيدا أنك لم تعرف كل تلك الأشياء التي اعتقدت يوما أنك ستصل إلى جوهرها في يوم من الأيام، لتصل إلى حقيقة أنك لا تدرك شيئا. لا تعرف السر وراء ذلك الصراع بين الخير والشر، لما يتعارك الناس فيما بينهم رغم أنهم من جنس واحد.

في الصغر، تريد أن تلعب وتلهو بكل بساطة، لا تدري من أين تأتيك تلك الحيوية والقوة، تركض طيلة النهار في الأزقة، تجرب كل الألعاب التي تـأتي بالترتيب حسب المواسم والفصول، لكل وقت من السنة لعبة تستمر لمدة أسابيع تم تأتي لعبة أخرى لتحل مكانها، لا تحس إطلاقا بذلك التسلسل الزمني ولا بالشخص الذي يتحكم في الإعلان عن نهاية مدة إحدى الألعاب وبداية الأخرى، أشياء غامضة تقع. كنا مجتهدين في الدراسة رغم كل الظروف، لكننا كنا نحب اللعب أكثر، أغلب الأطفال لا يحبون الذهاب الى المدرسة، إنها القدر المحتوم، لن تعرف قيمتها إلا حينما تكبر، لكن مرة أخرى لا شيء يضاهي اللعب والشغب، تلك الأفاعيل التي تقترفها والتي تنسب للشيطان رغم أنك لا تعرفه، كل الأفعال المشينة من صنعه؛ لاتهمك تلك الأقوال التي تبدو لك مجرد محاولة للسيطرة على عقلك، بدون هدف، تقاوم كل من يريد أن يحيل بينك وبين الاستمتاع.

هناك بعض الألعاب التي تحتاج فقط إلى مساحة صغيرة للعب وإلى الكثير من الهدوء والتركيز، كلعبتي الخذروف «الطرومبية» أو «تمرايت» بالأمازيغية، ولعبة الكرات الزجاجية «jeu des billes» ؛ وهناك بعضها التي تحتاج إلى مساحات كبيرة كسباق العجلات الذي تطوف من خلاله كل الأزقة والدروب حيث تجري وراء عجلات الدراجات العادية أو النارية وذلك باستعمال نصف قارورة بلاستيكية للتحكم في العجلة وتغيير مسارها بطريقة سلسة، والطريف في الأمر هو وجود حواجز في الطرقات شبيهة بمحطات الدفع في الطريق السيار، لا تستطيع المرور دون دفع تلك الرسوم، طبعا لم تكن نقودا حقيقية وإنما يلجأ الأطفال إلى أوراق الحلوى المختلفة التي تشبه الأوراق النقدية، تدفعها للأشخاص الذين يؤدون دور مسؤولي المرور، يقفون بكل ثقة ويطلبون منك الدفع بنبرة تحد، فهم يحرصون على تطبيق القانون بصرامة، وإذا لم تتوفر على النقود تعود أدراجك للبحث عنهم.

أثناء ممارسة بعض الألعاب، كان جلد الأيدي يتشقق بفعل الإحتكاك بالتراب وتعرضه لبرودة الجو، لم نكن نبالي بذلك، هي أشياء مرتبطة بالظروف المناخية سرعان ما تختفي. كان الأستاذ يوبخنا باستمرار لأننا نقضي معظم الأوقات في اللعب بدل مراجعة الدروس، وأحيانا يضربنا لأننا لم نجتهد في حل تمرين معين أو نسينا جزءا من نص يجب حفظه على ظهر قلب. يجب أن تحفظ ولا شيء غير ذلك. ننسى ألم الضرب بمجرد مغادرة القسم، اللعب بنسينا كل شيء، الألم يبقى في الذاكرة فقط.
كل شعوب العالم تعرف اللعب، الأطفال في كل بقاع العالم يبتكرون ألعابا غريبة للتسلية وتزجية الوقت؛ اللعب لا يحتاج أدوات غالية الثمن ولا أماكن فاخرة، يمكن أن تلعب في أي مكان يكون مناسبا لشغبك.

في فترات معينة حين لا نمارس ألعابنا المفضلة، نلتقي بشخصية عجيبة، ذلك الشيخ الناسك، الذي علمنا معنى التطوع وعمق المجتمع المدني وطريقة «تيويزي» والتعاون في العمل، كانت مهمته التطوع لإصلاح الطرقات من تلقاء نفسه دون مساعدة من أحد وبدون ضجة، كنا نساعده أحيانا، فكان يحكي لنا قصص عجيبة وبعض القفشات المضحكة كنا نرددها ونحن نحضر الأحجار أو نحفر التراب لإصلاح الطريق.
تلك الشخصيات لا تحتاج للتكريم ولا لذكر أسمائها، تحتاج فقط للتأمل. التأمل العميق الذي لم يحضوا به في حياتهم وما كانوا يفعلونه والتعلم منهم بدون ضجيج. للأسف، نحن لا نعطي القيمة للأشخاص في حياتهم، ننتظر موتهم لنتأسف على ذلك.

«المخرج الهندي العظيم «ساتيا جيت راي» وهو بعمر ست سنوات زار برفقة والدته شاعر الهند الأعظم طاغور الذي كان يبلغ الستين، الطفل أحضر معه دفتر مذكرات من أجل الحصول على توقيع، لكن طاغور سيعيد له دفتر مذكراته مع قصيدة جميلة من أبياتها:
“فشلت في الرؤية بعيني..
على بعد خطوتين فقط من منزلي..
في حزمة من حبوب الأرز، قطرة ندى.
يجدبنا ما هو واضح – الجبل أو المحيط غالبا ما نفشل في ملاحظة الجمال في المعتاد..” » (1)

(1) المجلة المغربية للأبحاث السينمائية، العدد 12 – أكتوبر 2022- الصفحة 78، بتصرف.

Exit mobile version