مقاطعة مونديال قطر 2022

من منظور تحليل الخطاب

قبيل أيام من حفل افتتاح كأس العالم لكرة القدم المنظم بقطر سنة 2022، تعالت أصوات التظاهرات المناهضة لتنظيم هذه التظاهرة الرياضية، بعديد من الدول الأوروبية كفرنسا وبلجيكا وألمانيا، سواء في صفوف الجماهير، ونقصد بالجماهير هنا مشجعي أندية كرة القدم بهذه البلدان، وكذلك بعض من العامة، ثم في صفوف الإعلام. حيث انتشرت مجموعة من الخطابات بين الفريقين معا داعية إلى عدم التنقل إلى قطر، ومقاطعة مباريات كأس العالم المقامة بعين المكان.

وقد اتخذت جل هذه الخطابات –خصوصا تلك التي رفعت في مظاهرات – طابعا إنسانيا أخلاقيا بريئا، دعا إلى مقاطعة التظاهرة لما عرفه الاستعداد لإقامتها من ظروف وتعامل لا إنساني مع العمال ومجهزي الملاعب، وهو ما أسفر عن خسائر بشرية تعد بالآلاف. فيسعى هذا النص المقالي انطلاقا من أحد نماذج هذه الخطابات الوقوف عن مدى براءتها، فنتساءل هل من أنساق فكرية مضمرة في هذا الخطاب؟

إن الخطاب غير مسالم، وهذا ما يعتقد بذلك جل الباحثين في تحليل الخطاب وعلى رأسهم ميشيل بيشو الذي ذهب إلى أن الخطابات تعد شكلا من أشكال الممارسات الإيديولوجية، “فهي تنتج عن الصدام بين بعضها وبعض؛ ولهذا السبب كان هناك بعد سياسي لكل مرة تستخدم فيها الكلمات والعبارات في الكتابة والكلام” (ديان ماكدونيل). وقد انطلق بيشو في تصوره هذا دامجا بين الموقف الألتوسيري الذي يرى أن معاني الخطابات تنشأ في علاقات التعارض التي تنشأ أساسا في الصراعات التي تخترق أجهزة الإيديولوجيا، ثم بين التحليل النفسي بريادة جاك لاكان الذي يعتبر أن اللغة مبنينة في اللاشعور، ووفق هذا التصور – أي تصور بيشو – سنعمل على تحليل خطاب المقاطعة موضوع اشتغالنا.

يتكون منطوق الخطاب قيد التحليل من صورة تضم جماعة من الناس يقفون في أعلى درج، يحملون لافتة حمراء كتب عليها بلون أسود: «BOYCOTT QATAR»، ما معناه “قاطعوا قطر”، ثم أسفلها مباشرة في نفس اللافتة بلون أبيض «COUPE D’IMMONDE»، وإن تأملنا يمين الدرج وجدناه ملطخا بصباغة حمراء من أعلاه إلى أسفله قياسا على الدماء، وبجانبها نجد ثلاثة أشخاص يشكلون أطرافا عاملة أو ممثلين مستلقيين على الأرض يلعبون دور الموتى، في إحالة إشارية إلى الحوادث المميتة التي عرفتها عمليات تجهيز الملاعب في قطر، فالدماء والممثلون استعملوا بمثابة حجة لتقوية الدعوى التي يجود بها منطوق هذا الخطاب.

هذا التصوير الخطابي الذي قام به الممثلون يتماشى مع منطوق اللافتة الذي يدعو إل مقاطعة كأس العالم قطر، وتجدر الإشارة إلى أن هذا التوصيف أي –كأس العالم- لم يكن حاضرا بشكل حرفي ضمن منطوق الخطاب، وإنما حضر بشكل ضمني عن طريق ظاهرة التورية في كلمة D’IMMONDE، التي تدل في معناها المعجمي على القذارة، أما في سياقها التلفظي فقد أريد بها معنى التظاهرة الرياضية المنظمة في قطر، والتي تأخذ صفات القذارة والعار لما تبعها من إزهاق للأرواح. وهذا المنطوق الإنساني البريء هو ما تجود القراءة البنيوية لهذا الخطاب.
غير أن بيشو كان قد دعا إلى تجاوز البنيوية ودعمها بتصور ألتوسير ولاكان الجدلي والنفسي على التوالي، وهو ما سيمكننا من استنباط الأنساق الإيديولوجية في هذا الخطاب، ولن يتم هذا إلا عن طريق ربطه بظروف انتاجه، ومعرفة ما قبله.
يأتي هذا الخطاب كما تمت الإشارة إلى ذلك في سياق مناهضة تنظيم قطر لكأس العالم لكرة القدم 2022، بدعوى لاإنسانية الدولة المنظمة، وسوء تعاملها مع العمال، مما أدى إلى وفاة الآلاف منهم في عمليات التجهيز، لكن المتأمل للتشكيلة الخطابية المناهضة لتنظيم الدورة في قطر منذ فوزها بهذا التنظيم سنة 2010، قيد ولاية ميشال بلاتيني، لابد أن يرى التعارض بين الخلفيات التي بنيت عليها الدعاوى المقدمة ضد قطر، والتي تراوحت بين ما هو جغرافي طبيعي، وما هو اقتصادي، ثم ما هو إنساني أخلاقي.

فلم تترد بعض الدول الأوروبية في تعجيز قطر عن تنظيم هذه الدورة، مرجئة الأمر إلى طبيعة قطر الصحراوية ودرجة الحرارة غير المناسبة للعب مباريات كرة القدم، ثم إلى عدم توفر البنية التحتية واللوجيستيكية التي ستساعد قطر على تنظيم حدث كبير بقيمة كأس العالم، لتلجأ هذه الدول للدعوى الثالثة الإنسانية السابقة الذكر بعض دحض قطر للدعاوى السابقة، وهو ما يؤكد أن خطاب المقاطعة ليس خطابا مسالما، إنما هو خطاب موجه بإيديولوجيات فكرية معينة.
يمكن الكشف عن طبيعة هذه الإيديولوجيات من خلال تحديد طبيعة الطبقة التي ينتمي إليها منتجوا الخطاب ومقابلتها مع الطبقة المتقبل أو المرسل إليه غير المباشر الذي تمثله دولة قطر، فمنتجوا الخطاب ينتمون إلى الطبقة الحاكمة قياسا على التراتب الطبقي للدول في العالم، وهي الطبقة الموجهة والمتحكمة في دول العالم الثالث التي لا تتنمي إليها قطر إلا جغرافيا، وتتشارك معها في عنصري الدين واللغة.

ملعب 974 بقطر

تقارب قطر ودول العالم الثالث خصوصا العربية منها يجعل النظرة الموجهة إليها من الغرب نفس النظرة الموجهة إلى نظائرها من الدول العربية، وهي نظرة فوقية تجعل أضعف دول الغرب في أعلى الهرم مقارنة مع أقوى الدول العربية التي من المفترض أن تبقى قابعة في القاع، وتنظيم قطر لهذه الدورة كفيل بأن يخطئ هذه النظرة الدونية الموجهة إليها، ليس هذا فقط بل هو كفيل بأن يحدث نهضة ورواج اقتصاديا وسياحيا بالبلد المنظم، وهو ما تحقق مع الدول التي سبقت قطر في التنظيم.

وكمثال لذلك نتخذ النهضة التي عرفتها دولة جنوب أفريقيا بعد تنظيم مونديال 2010، حيث حقق اقتصادها نموا بنسبة 2.9 بالمئة، وتم خلق 66 ألف وظيفة جديدة، وزار البلاد ما يصل إلى نصف مليون سائح أجنبي، وحققت أرباح ما يزيد عن 4.9 مليار دولار، وهو مبلغ يزيد عن المبالغ التي أنفقتها جنوب أفريقيا استعدادا لاستضافة المونديال. أما البرازيل فقد أنفقت حوالي 13.5 مليار دولار، بينما كانت العائدات ما يزيد عن 30 مليار دولار ، ومن المتوقع أن تحقق قطر نفس الأرباح هذا إن لم تتجاوزها أو تضاعف عددها.

فإن نظرنا إلى خطاب المقاطعة من هذه الزاوية، تبين لنا أنه موجه بخلفية اقتصادية سياسية، وإن نظرنا من الخلفية الإيديولوجية لقطر التي تتنصر لما هو هوياتي ديني، ما دعاها إلى تجريم المثلية على سبيل المثال، فإنه يتعارض مع الخلفية الغربية الداعية إلى التحرر والحق في ممارسة الحريات الفردية، والمشروع الغربي لنشر المثلية على أوسع نطاق، وهذا في حد ذاته سبب يدعو أصحاب هذا التوجه إلى مقاطعة قطر.

ومن خلال ما تقدم، وبناء على المنهج المتبع في تحليل خطاب المقاطعة، تبين أن هذا الخطاب ليس خطابا مسالما، إنما هو خطاب مغلف بالبراءة والإنسانية، لكنه يحمل بين طياته أنساقا إيديولوجية مضمرة تنم عن صراع وجودي ثقافي بين إيديولوجيتين مختلفتين، تسعى كل من هما لفرض وجودها، فالغرب الحاكم يدرك أهمية استغلال تظاهرة رياضية كبيرة كأس العالم في تمرير الأفكار وتوسيع المعتقدات الفكرية والإيديولوجية، الشيء الذي تسعى قطر إلى الاستفادة منه، وتسعى قوى أوروبا إلى منع حدوثه.

مقاطعة مونديال قطر 2022

Exit mobile version