آفة الحكمة

قصة قصيرة

كان ليلا ثقيلا آيلا للسقوط، لم يجد ظلامه الدامس إلا روح ذاك الشاب الحزين المدعو بعلال، كانت علته الوحيدة أن جثم الليل البهيم بثقله على جمال روحه، وعلى جثته الباردة التي تناشد دوما أن يزول عنها الأرق اللعين، الذي اعتلق به حولين كاملين، كما يعتلق الرضيع بثدي أمه المترع بالحليب اللذيذ، ارتجفت يداه الهزيلة وهو يحاول رفع ثقل الليل المنسدل على قلبه الرقيق، وجفنه الذي لم يكتحل بنوم هنيء لمدة أسبوع كاملة، فتش المسكين الحزين في جيب عزلته، عله يجد إنسانه الذي كانه فيما مضى، باسم، حيوي، فكاهي، عفوي، لكن مع الأسف لم يجد شيئا من ذلك عدا الفراغ والهراء اللذان لفا جسده الهزيل جدا، لقد أفرغ تماما من حيويته التي عهدها الناس عليه، كبقايا سيجارة يتيمة تدوس عليه أقدام المارة، تدوس عليه بألفاظ خادشة للحياء، بنعوت قبيحة، لا تعرف للطف سبيلا، هو علال يتعالى بصمته كثيرا، لهذا لم يجب أحدا من المارة المشككين في صحته العقلية وبنيته الجسدية، لم ينبس البتة ببنت شفة، لقد كتم حوادثه بين جوانحه، وهو الذي يتقن جدا حزنه المرصع بكثير من الحِلم، يخفي حزنه دوما بين ضلوعه كلما سنحت الفرصة، يعاود الكرة مرات ومرات إلى أن يقذفوه الناس من جديد بأقبح الكلام وأتفهه، إنه غير مكترث بصراخهم الفاشل؛ لأنه في نظره الحكمة في التأمل ومعانقة الصمت بدل الثرثرة المجانية، بكرم وارف يبادر علال إلى مصافحة كل الخلائق حتى الحيوانات، يبادر المسكين برحابة صدر إلى ممارسة فعل المواساة، وهو الذي يردد قول بخير-رغم شساعة حزنه- ليفر من إشفاقات الناس الباهتة، هو الذي يربت على كتف المكلومين باستمرار، دون أن يخاف من حزنه-أي نعم-يواسيهم إذا ما اخترقت سهام الوجد فرائصهم، يواسيهم حتى يكاد يجن بسبب ما يكابدونه من حزن مستطير وكأن هم هو، يتسابق والزمن ليهدأ من روعهم، لا يتوقف البتة من توزيع حلوى الدعم النفسي لهم، وفجأة حينما يحتاجهم يوصدون أبوابهم، فيعود من جديد إلى سيجارته فيقبلها بفمه الذي يخلط الدخان المنبعث منه بكلام الحكماء، رغم شيخوخة فمه وانكماش وجهه بقي علال شاب القلب يقول كلمات تسكنها آلاف الحكم الباذخة التي أذاعها من الناس فاستفادوا منها وهو لم يستفد منها شيئا، فكلما شعر علال بالحنق ناول فمه سيجارته التي يقتنيها دوما من عند السي عمر، الرجل الذي يلعن العالم كثيرا ويحب علال أكثر، ليس لأنه متشرد بل لأنه تقمص دور المتشرد وهو الذي يملك قصورا من الحكمة في كل بقاع العالم، السي عمر يحب علال لأنه يغذيه كباقي الناس بأدبه الجم الماتع، وكأنه يجالس متنبي زمانه، يصول السي عمر في مراتع الأدب والفلسفة وعلم الفلك، في المقابل يأخد علال كسرة خبز ومبيتا هادئا في دكان السي عمر الذي أوشك على الإفلاس بسبب ديون سكان الحي الشعبي، رغم حزنهما المشترك إلا أنهما تعاهدا على أن يعيشا على أمل القناعة وكثير من الحكمة المتبصرة، فكلما جاع البطن استجاب دكان السي عمر لغريزة علال، وكلما مالت الشجون نحو السي عمر، استجاب علال بحكمته الفائقة فلا تطلع الشمس إلا ويصفو خاطر السي عمر، هذا الأخير الذي ازدهرت تجارته بعدما اقتنع بفكرة علال الذي يرنو بنظرته إلى العلا، حبا في رؤية الناس يعانقون نجاحاتهم بعد سأم طويل واستسلام مبكر، لقد نجح السي عمر ونسي ما قدمه له علال بعد أربعة عقود من العشرة، فلما علم علال بالأمر تخطفته أيادي المنون تاركا وصيته الخالدة: يا من جاء إلى هذا العالم الذي ينز بالشجون القاتلة، اعتنوا بحكيمكم لأنفسكم، واتركوا محبتكم لكم ولبعض من أشباهكم، ولا تعط كثيرا كي لا تموت معدما، وافسح المجال للخيبة ولا تكن مشاركا فيها كي لا تموت مرتين.

آفة الحكمة

حمزة الرايس

خريج كلية اللغة العربية، معلق صوتي، مدبلج للرسوم المتحركة، حاصل على ديپلوم الصحافة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *