قَدر

في إحدى القرى النائية تلك المنسية الغائبة عن الأنظار كان الحسين ذاك الذي يرابط نهارا في الجبال عدته وعله يشمر على ساعديه ويجتهد في تحصيل لقمة عيش لذويه، يمتلك من الأبناء أربعة آخرهم يوسف ولد هزيلا ضعيف البنية مما لفت انتباه والديه وصار الأقرب لهما الشيء الذي غرس من بذور البغض في قلوب باقي إخوته.
يوسف ولد بقسمات جميلة تلفت النظر ذا بشرة بيضاء ناعمة ووجه ساحر يسر الناظرين وحس فكاهي تجعل كل من يقابله يتمنى في سره لو يمكث بصحبته طوال العمر، صبور قوي لا يكل ولا يمل ينكب على شغل أعمال قاسية لا تتناسب وسنه، لم يشكو من شظف العيش قط بل كان حافزا ومنبعا لنشر الطاقة بين إخوته ووالديه، رغم كل الجفاء الذي كان يتلقاه من إخوته الأكبر منه حرص كل الحرص أن لا يبدي لهم سوى المحبة والاحترام، كان الجميع يمزق ما في شغاف قلبه من أمل في غد أفضل وحياة غير التي نشأ فيها كان يتناهى إلى مسامعه كل حين ضرورة عدم الالتحاق بمدرسة القرية والانكباب على الأعمال الشاقة بغية توفير ما يقتات به له ولعائلته، ولكن رغم كل ما قيل له كانت نفسه تهضب بأشياء شتى وكان معين الأماني عنده لا ينضب بل يزادا غزارة كل يوم، لم تكن تلك الأقاويل سوى دافعا قويا ليقرر أن يترك بصمته على جبين الحياة وأن يجاهد في سبيل تحقيق ما تصبو إليه نفسه التواقة إلى المعالي، ولج المدرسة فأحرز تفوقا شهد له الجميع، لفتت انتباهه الكتب فكان محبا للقراءة فيحرص أن يقتحم الشعاب الفجة المحيطة به في كل ركن وينزوي بمفرده فيلتهم ما جادت به الحياة من كتب وقصص كان بعضها يستعيرها من زملائه وأساتذته وبعضها الآخر يقتنيها من المدخرات التي جمعها أيام انشغاله ببيع الخضروات في السوق الأسبوعي للقرية إضافة إلى الأدوات واللوازم المدرسية، أبدى إعجابا بالأدب رغم درجاته التي كانت عالية في المواد العلمية، لكنه أحب الأدب والشعر فكان حريصا على قراءة نصوص الأدب التي احتوتها الكتب المدرسية الخاصة باللغة العربية وكذا بعض القصص وسير الأدباء والشعراء… ما غرس في نفسه الرغبة الملحة لمتابعة الدراسة وأن يصبح شخصية ذات شأن في مجتمعه.
تابع دراسته بكل اجتهاد وعزم على تحقيق الأفضل إلى أن انتهى من المرحلة الابتدائية بنجاح وتفوق لتبدأ مرحلة جديدة من حياته رحلة متابعة الدراسة في المدينة الأقرب لسكناه لكن حلم متابعة الدراسة ظل يداهمه كيف سيدبر نفسه بمفدره في مدينة كبيرة لا قريب ولا أنيس فيها وكيف سيتحمل مصاريف عيشه وهو الفقير المعدم، في ظل زوبعة الأسئلة هذه التي لا تنتهي وشرود أفكاره وقلقه المتواصل حول مستقبله الدراسي حدث ما فطر قلبه توفي والده في الفترة التي كان في أمس الحاجة إليه هكذا دون سابق إنذار، وفاة والده أسكن في ثنايا روحه اكتئابا طويل الأمد أسكن الحزن في نياط قلبه وشعر بثقل الحياة وظلمها له مذ نعومة أظافره.
لكنه قاوم وأصر على الرحيل والانتقال إلى المدينة تابع دراسته رغم ما تكبده من مشاق وصعاب أحرز نجاحات كثيرة ودرجات عالية فكان مصدر اهتمام وفخر لزملائه ومن درسه، حلم الطب رواده على حين غرة عندما أدرك القبح المستشري في المدينة حيث يدرس، كثرة المرضى وحيف الأطباء وإهمال المسؤولين… قرر وعزم في دواخله أن يتم الدراسة ويشتغل طبيبا مستقبلا فانكب على الدراسة بنهم وحصل على معدل خوله الولوج لكلية الطب حيث سيبدأ مشوارا جديدا ومرحلة هامة من حياته تلك التي ستصقل فيها شخصيته أكثر وسيدرك تمام الإدراك أن الفشل لم يكن قط نهاية الإنسان بل بداية جديدة لنجاحات أكبر، وأن النجاح لن يكون دائما في حياة لا تؤتمن البتة ويمكن أن تبغاتك وتصفعك من حيث لا تدري وتلقنك دروسا غير تلك التي تتعلمها في المدرسة.
درس العام الأول ورغم صعوبة تأقلمه مع المناخ الجامعي استطاع أن ينجح وحتى لو لم يكن ذاك النجاح الذي يأمله، قاوم نفسه وجاهد لينصب اهتمامه على دراسته فقط ويترفع بنفسه عن الملذات الدنيوية الأخرى التي اجتاحت غيره من الشباب وأضلتهم عن طريق الصواب، في خضم تلك المعارك الضارية التي يخوضها بمفرده دون رفيق يتقاسم معه عبء الحياة ويهون عليه طول الطريق ووعورتها تناهى إلى مسامعه نبأ وفاة والدته أقرب الناس إلى قلبه لم يصدق الخبر غمرته رعشة قوية من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين وجد مواجع شتى تنبثق من روحه وجسده المفرط في الهشاشة، تمالك نفسه للحظات وحاول ابتلاع جرعة الأحزان التي جرعته إياها الحياة لم يصدق نفسه أن وفاة والدته كان سببها مرض السرطان الذي نخر جسدها تألمت في صمت دون أن تنبس ببنت شفه لئلا تضيق على أبنائها ولربما ليقينيها باقتراب أجلها وتفضيلها لمضي ما تبقى لها من عمر بجانب فلذات كبدها عوض أسرة المستشفى الباردة، قرر عندما علم بحقيقة مرض أمه أن يتخصص في معالجة مرضى السرطان وأن يهب كل جهده ليعالج بالمجان كل من لم يتمكن من تحمل مصاريف العلاج، موت والدته جلب عليه الويلات طرده إخوته من المنزل بحجة أنه لم يكن مكترثا بأوضاعهم وفضل الدراسة عليهم، كانت تلسعه في دواخله وحشة غامضة وشوق ممض لوالديه، خرج يلعن الحياة والدراسة التي حملها ذنب ما آلت إليه أموره، طواه صمت بهيم لردح من الزمن مضى يحث الخطو بكل تثاقل في جنبات الشوارع المقفرة، وفي غمرة حزنه والضياع الذي قبع فيه صادف فتاة جميلة نحيلة الجسد تدعى قَدر حن قلبها لحاله عرضت عليه أن يبيت مع عائلتها لم تتوجس منه ولم تأخذ حيطتها من شكله المهمل، أشفقت على حاله وقبل عرضها على مضض فنفسه تأبى أن تكون ضيفا ثقيلا على أحدهم تفرس في ملامح وجهها فبدا له ملامح بريئة لن تضمر له الشر، على أي حال هو عرض مغر ولا خيار أمامه إلا أن يقبله، صاحبها إلى منزلها واستقبل بحفاوة قلما ذاقها، طاب له المكوث في أحضانهم شعر أن الله وهبه عائلة وعوضه عن كل المرارة التي تجرعها في السنين الخوالي، لكن فرحته لم تدم طويلا فغيابه عن الجامعة دفعت الإدارة لأن ترسل له إنذارات بالطرد لو لم يستأنف المحاضرات في أقرب وقت ممكن عاد أدراجه إلى كليته بنفس جديد ومساعدة من قدر تلك الفتاة التي تضمر في جوانحها قلبا نقيا طاهرا ينبض حبا له، شعر هو كذلك بحب نتأ في القلب الواهن فجأة وأعاد له نبض الحياة حب تجاه قدر التي مدت له يد العون في عز فقره وعوزه وفي غمرة ضياعه، بات حبه لقدر هو كل ما يدفعه ليحيا ليتمسك ببصيص الأمل الذي انبلج حديثا في قلبه ليواصل ويحث خطواته في دورب الحياة الوعرة المسالك تيقن أن هناك من يستند عليه ظهرا قويا كلما سحبت الحياة بساطها عنه تتلقفه هي بكل ما أوتيت من قوة وجهد كلما اعوجت خطواته تقيمها هي وكلما شعر انه آيل الانهيار في أية لحظة تسنده وتعيده كما كان وأفضل، عاد إلى التحصيل والاجتهاد وحصد علامات عالية بفضل قدر التي أحاطته بحبها وأغدقته باهتمامها وهبت نفسها له ضحت بالكثير لينعم هو بالسعادة ويحقق كل ما تاقت له نفسه كان حبها هو كل ما هز عرش قلبه المدثر بالصقيع، كلما شعر بهسيس أنفاسها يغمره دفء يسري في خلايا جسده، عينيها كل ما كان ينحت داخله بأحاسيس جميلة أحاسيس تدب في روحه نبض الحياة، حياة بنكهة جديدة لم يتذوق طعمها قط، اقتنع أنه حياته لن تكتمل إلا بوجود قدر فقرر أن يطلب يدها رسميا من والديها في حفل تخرجه ليغنم نكاية عن كل الخسارات التي طالته في السنين الماضية بفرحتين فرحة الارتباط بمن أحب قلبه وفرحة التخرج وبداية مسار عملي جديد في معالجة مرضى السرطان، ويخصص جزءا من وقته وجهده للمعالجة بالمجان كل من لم يتمكن من دفع مصاريف العلاج ويهبه صدقة جارية لوالدته التي توفيت بسبب المرض اللعين، أتى يوم التخرج بعد تعب ومشقة أتى محملا بالأفراح والمسرات حمل شهادته في يد وخاتم الزواج في يد آخر، وافقت وسعادة عارمة تجتاحها، وقف يوسف يتأمل السماء المتشحة ببهجة كبيرة شكر الله وهو ممتن لكل ما حدث له كل ذلك الفتق الجسدي الذي جعله يتشرنق على ذاته في ما مضى رمم وما عاد له وجود، كل أحزانه مسحت بلمسة من قدر جائت محملة بالبشائر له، كانت فأل حسن عليه مذ لاقته الأقدار بها وهو يتسلق سلم النجاح وتتقاطر عليه الأفراح والمسرات من كل حدب وصوب، افتتح عيادته وخصص جزءا من العلاج للمعوزين والفقراء تلبية لحاجة ملحة انبثقت من شعاب روحه أن تكون صدقة جارية لوالدته ويكون بالفعل شخصية مهمة ويترك بصمته على جبين الحياة كما حلم وهو طفل صغير لا يفقه في دروب الحياة شيئا.

مصطفى طولاز

مدون حاصل على شهادة الماستر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *