ملحمة الحالمون ..

مشاهد من سيناريو إنجاز تاريخي للمغرب في مونديال قطر

استطاع المنتخب الوطني المغربي تحقيق ما كان يعد ضربا من الخيال، فإذا ما اعتبرنا أنه لكل شيء حدود، فأشد المتفائلين لم يكن في حد تفاؤله الأقصى يدور في خلده تأهل المنتخب الوطني لنصف نهائي كأس العالم، مما يجعل الإنجاز تاريخيا ومرجعيا ليس فقط للأجيال القادمة لأسود الأطلس ، بل ستضع الأجيال الكروية القادمة إفريقيا وعربيا “ملحمة” المغرب المونديالية كمرجعا لتحقيق إنجازات بالمثل، لكون المنتخب المغربي كسر حاجز الخوف والعقدة، وبمشاهد ستظل راسخة في الأذهان، كتب المنتخب الوطني بقيادة وليد الركراكي سيناريو لقصة واقعية خالدة.
قبل ثلاثة أشهر من بداية مونديال قطر، كانت أضواء الإعلام مسلطة بشكل كبير في ندوة تقديم الركراكي ناخبا وطنيا خلفا للمقال “خليلوزيتش” ، فالرغبة كانت كبيرة في معرفة طريقة تفكير القائد الجديد للأسود مقارنة بسابقه الذي لم يكن يحظى بالإجماع.
أكد الركراكي أنه لن يذهب إلى كأس العالم للنزهة، وللعب ثلاث مباريات فقط، بل يتمنى أن يحقق انجازا يظل محفورا في الذاكرة، رغم ضيق وقت التحضير، وهو ما أوصله للاعبين.

المشهد الأول: كرة القدم هي الواقعية

“الأداء، الأداء، الأداء، أنا لا يهمني الأداء ، لقد فزت بالعصبة، كرة القدم اليوم هي الفعالية” هكذا تحدث وليد الركراكي بعد فوزه رفقة الوداد بدوري أبطال إفريقيا على حساب الأهلي المصري بعدما كان غير مرشح، وهو التتويج الذي فتح له جميع أبواب المنتخب الوطني المغربي ليدخل من أي باب شاء، لتتاح له الفرصة لعيش تجربة المونديال كمدرب، بعدما حرم منها كلاعب.

المشهد الثاني : بداية الغيث قطرة

قص المنتخب الوطني المغربي شريط مبارياته بالمونديال القطري، ضمن المجموعة السادسة التي ضمت بلجيكا وكندا وكرواتيا، بمواجهة الأخيرة.
لعب ” الأسود” بصلابة دفاعية اقتنص من خلالها نقطة ثمينة من وصيف بطل النسخة الماضية، نقطة ستجعل مساره بالمجموعة معبدا شيئا ما مقارنة بدورة روسيا 2018.

المشهد الثالث : الأسود تصفد الشياطين

تمكن المغرب من الانتصار في مباراة بلجيكا بعد 24 سنة من آخر انتصار له بمونديال فرنسا 1998، واستطاع الأسود تسجيل هدفين في مرمى واحد من أفضل حراس المرمى بالعالم حاليا وهو “كورتوا” حارس ريال مدريد الإسباني، كما تفوق وسط ميدان المغرب بقيادة سفيان أمرابط على وسط ميدان عالمي تمتلكه بلجيكا بقيادة “دي بروين” فتى غوارديولا المدلل في مانشستر سيتي، ليصبح المغرب يحتاج نقطة واحدة من أجل التأهل للدور الثاني لأول مرة منذ جيل الزاكي والتيمومي.

المشهد الرابع : اللاعبين يرفعون الركراكي إلى السماء

تأهل المنتخب المغربي إلى الدور الثاني لأول مرة منذ دورة “المكسيك 1986“، ولأول مرة يحقق المغرب انتصارين متتالين بدور المجموعات منذ أول مشاركة سنة 1970، بفوزه على منتخب كندا العنيد بهدفين لواحد.
إنجاز دفع اللاعبين للإحتفال بمهندس الملحمة، وليد الركراكي، ورفعه عاليا إلى السماء مثلما رفعو إسم المغرب.

المشهد الخامس : أمهات مغربيات أصيلات

لم يكن مشهدا عاديا احتفال اللاعبين المغاربة بانجازهم رفقة أمهاتهم، فقد خلق الحدث بطريقة تضاهي حدث تأهل المغرب إلى الدور الثاني.
مباشرة بعد صافرة نهاية مباريات المغرب بالمونديال، يتوجه كل من أشرف حكيمي وعبد الحميد الصابيري وسفيان بوفال نحو أمهاتهم المتواجدات بالمدرجات قصد الإحتفال رفقتهن، ببساطة تعكس من جهة هوية المرأة المغربية وارتباطها بثقافتها وأصالتها مهما باعدت المسافات بينها وبين بلدها المغرب، وتعكس من جهة أخرى ثقافة العرفان والتقدير لدى لاعبين مغاربة تجاه أمهاتهم ، خاصة أن ازديادهم كان ببلاد المهجر ، وأكبر دليل مشهد رقصة اللاعب سفيان بوفال رفقة والدته بعد مباراة إسبانيا، والتي خلقت الحدث عالميا.

المشهد السادس : ندوات الركراكي “الماستر كلاس”

منذ فترة تدريبه لنادي الفتح الرباطي، لم تكن ندوات وليد الركراكي حدثا روتينيا كباقي المدربين، فكان يخلق الحدث دائما في ندواته الصحفية بتصريحات تصبح فيما بعد ماركة مسجلة بإسمه، وهكذا اعتبرت ندوات الركراكي التي تسبق أو تعقب مباريات المنتخب الوطني بالمونديال بمثابة “ماستر كلاس“.
كان الركراكي وراء عبارة “ديرو النية ” التي أصبحت أشهر عبارة في كأس العالم، وأضحت عنوانا للإنجاز المغربي الخرافي، فالنية أساس كل شيء وبواسطتها تصبح كل خطوة في الحياة مباركة، لم تتوقف دروس الركراكي في “النية” بل تعدتها للإصرار والعناد ولعل تصريحه برغبته في التتويج بكأس العالم وإحباطه بعد الإقصاء أمام فرنسا في دور النصف، رغم ما يمثله من إنجاز قد لا تصله العديد من المنتخبات لسنوات، خير دليل على شخص لا يرضى سوى بالقمة.

المشهد السابع : صرخة زياش

نجح المنتخب المغربي في جر المنتخب الإسباني لضربات الترجيح، وكان حكيم زياش من بين المتقدمين للتسديد، لينجح في تسجيل ركلة الترجيح التي ظل شبح إهدارها ملازما له منذ ركلة جزاء مباراة البنين الشهيرة التي ظل البعض بسببها عبارة “كون غير خلاها لبوصوفة”.
أطلق زياش صرخة مدوية ومجنونة بعد تسجيل ركلة الترجيح، صرخة تختزل عدة أشياء ابتداءً برد الاعتبار لنفسه بعد تناسل اتهامات تشككه في وطنيته الصادقة، مرورا بشعوره أخيرا بالإنصاف بعد شهور طويلة من الإبعاد عن عرين “الأسود” بسبب خلافه مع المدرب السابق “خليلوزيتش”.
كان زياش مساهما كبيرا في إنجاز الأسود بالمونديال، فقد كان وراء الهدف الثاني لزكرياء أبو خلال في مرمى المنتخب البلجيكي في المباراة التي فاز خلالها بجائزة رجل المباراة، ثم سجل هدفا رائعا في مرمى المنتخب الكندي، يمكن اعتبار مونديال قطر مناسبة شهدت إنفجار أفضل نسخة لحكيم زياش.

المشهد الثامن: تفاعل النساء والأطفال وكبار السن

أصبحت ملحمة المغرب المونديالية مناسبة لتوحيد جميع فئات المجتمع المغربي على هدف واحد، وهو تشجيع المنتخب الوطني بجميع الجوارح ، فحتى الفئات التي لا تفقه شيئا في “المستديرة” خرجت عن بكرة أبيها للإحتفال برفع اسم المغرب عالميا، وأبرز مثال على ذلك فيديو تجمهر فئة كبيرة من النساء أمام باب مقهى في لهفة كبيرة لما ستؤول إليه مباراة المغرب والبرتغال، وفيديو لشيخ طاعن في السن استعاد شبابه وبدأ في القفز فرحا مثل طفل صغير بعد تأهل المغرب، وفيديو لطفلة مغربية بملعب البيت بقطر، وهي تحتضن والدها الباكي بعد مباراة فرنسا و تمسح دموعه كأنها تقول له لا داعي للبكاء، فالأسود رفعوا رأسنا، وغير ذلك من فيديوهات ستظل خالدة وشاهدة على فرحة استثنائية عاشتها مختلف أطياف الشعب المغربي.

المشهد التاسع : احتفال الملك

بعد صافرة نهاية مباراة اسبانيا، نزل الملك محمد السادس إلى الشارع ليشارك احتفالات الشعب المغربي التي انطلقت ليلتها في جميع ربوع المملكة، وما هو مؤكد ، فإن مشهد الملك وهو يرتدي قميص المنتخب الوطني سيظل راسخا في الأذهان لعقود طويلة كواحد مما جاد به الإنجاز الملحمي للأسود، كما أن الملك لم يحتفل فقط بإنجاز المنتخب الوطني، بل احتفل أيضا بانجازه الشخصي حيث تخرج من أكاديمية محمد السادس، التي دشنها سنة 2009 أبرز اللاعبين في المنتخب الوطني الحالي الذين ساهموا في تحقيق الإنجاز المونديالي وسرقوا الأضواء خلال مباريات المغرب، وهم يوسف النصيري و نايف أكرد وعز الدين اوناحي.
وكتب الإتحاد الدولي لكرة القدم”فيفا” في مقال نشره على موقعه الرسمي بعنوان “أكاديمية محمد السادس .. سر تألق المغرب”، أن صاحب الجلالة الملك محمد السادس أقر عددا من المشاريع التنموية بالمغرب على مختلف الأصعدة ، ومنها أكاديمية محمد السادس لكرة القدم بهدف اكتشاف المواهب في مختلف أنحاء المغرب ورعايتها وتطويرها وتسهيل انتقالها إلى الأندية الأوروبية في ما بعد.

المشهد التاسع : الرقم 8 ، وإشادة الخصوم

لقد تفاجأت باللاعب رقم 8 ، لعب بطريقة مدهشة، فاجأني حقاً، لكن الرقم 8 لم يتوقف عن الركض، لا بد أنه منهك الآن، تحدثت عنه مع الطاقم التقني..”

هكذا تحدث مدرب المنتخب الإسباني لويس انريكي بعد إقصاء منتخبه أمام المغرب بضربات الترجيح، ولم يكن الرقم 8 المقصود سوى عز الدين اوناحي الذي صال وجال خلال المونديال الحالي.
تواصلت الإشادات من طرف خصوم المغرب ، فمدرب كندا هيردمان اعتبر أن المنتخب المغرب يجب أن يكون مصدر فخر للشعب المغربي، فيما وصف مدرب كرواتيا “الأسود” بكونهم مفاجأة المونديال الجميلة، وقال البرازيلي رونالدو أن الأسود هزت العالم.

المشهد العاشر: صورة لدور النصف بداخل إطار

انتشرت بمنصات التواصل الإجتماعي صورة تضم أعلام المنتخبات المتأهلة لنصف نهائي كأس العالم وهي المغرب وفرنسا وكرواتيا والأرجنتين، وكانت تلك الصورة متواجدة بداخل إطار “كادر” بحيث اختار البعض الإحتفاظ بها كذكرى غالية لحدث غير مسبوق، واختار البعض الآخر نشر الصورة بفيسبوك كي يقوم الأخير بتذكيرهم بها كل سنة، فأن يتواجد المغرب ضمن مربع الأقوياء حدث عظيم يستحق التوثيق بجميع الطرق.

المشهد الحادي عشر : كرة القدم توحد الشعوب العربية

كان أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد ال ثاني، حاضرا في جميع مباريات المنتخب المغربي حاملا للعلم الوطني المغربي ، بمعية الأسرة الحاكمة، وكان يتفاعل مع كل إنجاز للأسود كأنه مواطن مغربي، ولم تقتصر الإحتفالات على الملعب، بل كانت الدول العربية من المحيط إلى الخليج مسرحا كبيرا لمسيرات احتفالية كبيرة فخرا بانجاز المغرب، كما تلقى الملك محمد السادس سيلا من التهاني والتبريكات من رؤساء دول عربية بمناسبة الإنجاز.
لقد قام المنتخب المغربي بتوحيد العرب وجعلهم يقفون وقفة رجل واحد، وأعاد لهم الأمل وأنساهم احباطاتهم السياسية والإجتماعية، ولو مؤقتا.

المشهد الثاني عشر : العالم يقف احتراما

كتبت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية على صدر صفحتها الأولى، عنوانا بارزا يقول :” زئير المغرب يهز كأس العالم” مع صورة للاعبي المنتخب المغربي وهم يتقاذفون الركراكي إلى الأعلى احتفالا بإنجازهم، وخطت صحيفة نيويورك تايمز نفس الخطوة بعدما عنونت قائلة : ” المونديال مغربي حتى لو فازت به الأرجنتين أو فرنسا“.
أن تتحدث عنك أعرق صحيفتين في العالم ضمن عناوينها البارزة، ليس بالأمر الهين، بل تجسيدا حيا على الصدى العالمي للملحمة المغربية.
كما احتفى الرئيس الأميركي جو بايدن بإنجاز المنتخب المغربي، حيث أشاد بالأداء “الرائع” لمنتخب “أسود الأطلس” خلال البطولة. وقال بايدن في تغريدة على تويتر بعد انتهاء المباراة “بغضّ النظر عن الفريق الذي تشجّعه، فإنّ ما حقّقه هذا الفريق رائع، فضلا عن إصرار الرئيس الفرنسي ماكرون على زيارة مستودع ملابس المنتخب المغربي بعد نهاية مباراة فرنسا من أجل تهنئته على إنجازه، إلى جانب تهنئة ايلون ماسك، مالك منصة تويتر، بحيث خص المغرب بتغريدة استثنائية.
حل المغرب في المرتبة الرابعة عالمية من أصل 32 منتخبا مشاركا، وهو الأمر الذي لم يصل له أي منتخب عربي أو إفريقي من قبل، وفي مفارقة كبيرة، كان الحزن باديا على المغاربة بعد مباراة فرنسا، لسبب قد يبدو غريبا، وهو “الفشل” في الوصول لنهائي كأس العالم بعدما كانو في السابق يمنون النفس بمشاركة مشرفة فقط.

Exit mobile version