ما بعد المعتقل

الليل في بداية الشتاء طويل جدا، الظلمة حالكة والسكون يكاد يصيبك بالصمم، جذب اللحاف إلى منتصفه وفكر أن الليل تجاوز النصف، لعن السهاد ومن ثم الأرق، الناس نيام حقا وإلا كيف يفسر نقاء الهواء فجأة.
مضت قرابة سنة ونصف دون استطاعته استرجاع نفسه، لم يستطع تجاوز أمر أربع سنوات في المعتقل، فمازال الجسد شاهدا حتى وإن حاول نسيانها، كان يظن أنه سيجد الطريق إلى نفسه بعد سنوات الرصاص كما كان يحب أن يسميها، لكن نفسه ضاعت منذ وافق على إمضاء تلك الورقة، حيث فهم متأخرا أنه لم يكن إلا آخر حبل سيودي به حتما ويقطع الصلة بينه وبين نفسه.
لازال يحترق كسيجارة رويدا رويدا كما يتسرب الدفء إلى الجسد في ليال زمهريرية، رغبته في لعن العالم تفوق رغبته في العيش عفوا لا رغبة له في العيش، فهو يدرك جيدا أنه مات منذ أول صفعة تلقاها حين قيل له: اعترف يا ابن الزانية، وأن كل ما يعيشه الآن ليس إلا وقتا إضافيا قد ينقضي في أية لحظة، كل شيء تبخر وأصبح باهتا كفقاعة عصفت بها الرياح على حين غرة، أزاح عنه الغطاء وضع قدما أمام الأخرى، ثم فتح النافذة وأخذ يدخن ببرود متأملا تألق السماء في ليلة قمرية. هل هو حاقد، غاضب، ساخط، حزين، سعيد لاشيء من هذا القبيل يشعر به، إحساسه فاقد لوعيه أو لربما ذهب مع آخر نفس في السيجارة، هل تحركه رغبة هل يغمره البرود….. لا يعرف حتما ما بداخله حاول مرارا سبر أغواره لكنه لا ينتهي إلا عند شفا حفرة سحيقة القاع. استدار فجأة كأنه تذكر شيئا للتو، توجه نحو الدرج حمل رزمة أوراق حار في أمرها أ ينشرها وينشر فظائع الجلادين أم يحتفظ بهذه الفظاعة لنفسه…؟؟ أ يحرقها…؟؟ أم يترك لأخته حرية التصرف فيها ؟؟… ثم وقع بصره على المسدس، كان قد اشتراه أول ما خرج من السجن، أحسه خفيفا بين يديه ليس كآخر مرة. كان محشوا برصاصة واحدة فشل في إطلاقها تلك الليلة لكنه الآن أصبح مصمما على أن يضع حدا للمهزلة النفسية التي يعيشها، فمن العبث أن يستيقظ اليوم لكي لا يفعل شيئا إلا انتظار الغد…. وضع المسدس وقام إلى النافذة مجددا ثم أشعل سيجارة، أخد نفسا عميقا حتى إذا أحسه تخلل خلاياه أطلقه، حركة تعودها منذ دخوله السجن؛ كان يقال له: رجب أطلق كل شيء مع السيجارة لا تترك شيئا يعتمل داخلك. فكان يكشف لهم عن فم نال منه الملقاط كل أسنانه، ثم يتبع تعليماتهم إلى أن أتقنها. إنها الحركة الوحيد التي جعلته يتحمل ثقل الأيام ويستمر إلى هاته الليلة. لن يزيد يوما آخر هكذا فكر، أخذوا مني كل شيء جسدي، عمري، حياتي، فتتوا صحتي حتى أصبح شبح الموت يطفو أمامي. دخن أخرى فأعقبها بأخريات وكأنه ينقب عن تلك النشوة الأولى مع أول سيجارة إلى أن انتهت علبة السجائر، كورها فداسها ثم عاد نحو الدرج أخذ ورقة خط عليها “ احرقوا جثتي ثم انثروا رمادي حرروا هذه الجثة فقد دفنت وعذبت قبل أن تموت “. أطلق صوتا أشبه بحشرجة الموت منه إلى قهقهة. حمل المسدس بيده اليمنى نحو صدغه، لم يكن يرتعش، ولم تكن في عينيه نظرات قلق أو خوف، ثم ضغط بسبابته على الزناد.

ما بعد المعتقل

نسيمة حيفى

طالبة ماجستير تخصص البيولوجيا والصحة. شغوفة بالادب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *