غريب الأطوار

لَبِثَ مليّا عند عتبة باب المقهى، يُمعن النظر في الوجوه ويمسح الفضاء الشاغر بعينيه البنيتين ونظراته الحادة، بدا تصرفه ذاك شاذا، شبيها بطرق أبطال الكوبري إثر مداهمتهم لمقهى معلوم يؤمه أرباب السوقة واللصوص. دخل المقهى وانتحى جانبا قصيا في زاوية شبه معتمة، أخرج لفافة تبغ، ثم تناول قداحة عتيقة من جيب سترته وأشعلها بطريقة عفوية، وشرع يمتصها على نحو شره. كانت الظّلال التي تتنزل على وجهه والضوء الشحيح الذي ينفذ إلى أمائره المتصلّبة تستجلب معها خوفا مبهما، كان مجلسه في ذلك الركن القصي نذير شؤم حلّ بالمقهى على غير اتفاق، على نحو يدعو للتطير منه، لذلك بدأ بعض رواد المقهى ينسحبون منه تباعا، مما أثار حنق الندل وألزمهم أن يتخلّصوا منه بطريقة ما، اتجه إليه أحدهم، وأفرغ على أذنيه بعض الكلمات المستهلكة بصوت خفيض لا يخلو من تكلف ونفاق: ” لو سمحت سيدي، هذه الطاولة محجوزة لشخص سيشغلها عن قريب! ” فسكت النادل وترك لعقل الرجل الغريب أن يُتم ما بقي من فضول الكلام. غير أن الرجل تصامم ولم يُبدِ حِراكا، وجعل ينفث الدخان بشكل كثيف وهو يغرق في مقعده إمعانا منه في الإباء، على نحو احتقنت فيها أعصاب النادل، الذي كظم غيظه وضغط على نفسه، وعاد يخاطب الرجل بنبرة حادة تشي بغضب مقيم يوشك أن تنفجر بركينه فتطال الرجلَ حِممه. استجمع الرجل نَفَسا عميقا وزفر متندّرا من ثقل كلمات النادل، ثم قام متحاملا على نفسه يخطو في اتجاه الباب، تنخّم ونظر إلى وجوه الندل الذين كانوا يسايرون حركاته الوئيدة ثم بصق على أرضية المقهى، مُظهرا نوعَ استنكار على الاقصاء الذي حاق به من لدنهم، ثم أدار ظهره أمام ذهولهم وولّى في حال سبيله راشدا نحو مكان آخر يقبله بنقائضه ونقائصه. كانت وجهته صوب مقهى شعبي يؤمّه أناس عاديين من الطبقة الكادحة، بلغ للمقهى فوجده يسبح في أبخرة السجائر الرخيصة ك العادة، وكان الصخب قد بلغ أشدّه، والضحكات المهشمة ما تفتأ تتكسّر على أذنيه، أشعرته الأجواء بنوع خفي من الغبطة والسرور، وولدت لديه نشوة متّقدة لتدخين لفافة تبغ فاخرة، تقدّم مخترقا الجموع دون أن يأبه به أحد، أشعره هذا الأمر أنه موجود حيث ينبغي أن يكون، في مكان يقبله الناس على هيئته ولا يثير حضوره معهم نوعا من الشك أو الارتياب. تجاوز الطاولات إلى آخر مكان شاغر في المطعم، احتلّه على جري عادته، فلطالما كانت الطاولات الأخيرة هي الأثيرة لديه من أيام الدراسة لعائدتها النفسية المطمئنة التي تجعله بمعزل عن أنظار الفضوليين التي تحرق ظهره على طول الحصة، وبمنأى عن سلطة الأستاذ في الرصد والمتابعة، رفع عينيه جهة النادل، فدنى منه هذا الأخير بوجه بشوش وثغر باسم كناية عن ترحيب مطلق وحسن استقبال لزبون حقيق بكل احتفاء، على نحو تعدى تأثير الإبتسامة النادل ليطاله غُنمها، فوجد نفسه يبادله إياها بعفوية دون تكلّف، طلب فنجان قهوة سوداء ثم عاد بظهره المكدود ليتكئ على مقعده مشبّكا أصابع يديه على بطنه وهو يمسح فضاء المقهى بنظراته التائهة، بدت له الوجوه لا تفتر عن الابتسام رغم آثار البؤس العميقة التي يستشفّها الناظر مباشرة بعد الوقوف على أخاديد التجاعيد التي تفنن الدهر في حفرها على أمائرهم المُنهكة، بيد أن طابع التبسّم على تلك الوجوه كان له آثار محببة إلى النفس، شبيهة ببقعة خضراء يانعة الثمار وسط أرض موات طال فيها الجذب، أو كخراب ممتد تتوسّطه زهرة فاتنة ذات أريج فوّاح، أعجبه هذا التشبيه فاستل مذّكرته الأثيرة وسارع لتثبيت الفكرة قبل أن يتطرّق إليه النسيان، فتح مذكّرته وأخذ يحملق في الفراغ كمن يطارد فكرة شاردة تاهت في بيداء رحيب من فكره المتوثّب ليكتب في النهاية: ” ما أعجب الإنسان وما أكثر نقائصه ونقائضه، وما أوفر وسائله في تحمّل الأنواء والصبر على الأرزاء، إنه ما يفتأ يستمدّ أسباب قوته وصلا بته من مواطن ضعفه وخوره، وهو على عِظم مُصابه في الحياة وقلة حظه فيها لا يكفّ عن الابتسام وافتعال النكات لتزجية الوقت والإجهاز على الفراغ، طمعا في إتمام رحلة حياته بأقل الخسائر.” أعاد قراءة مكتوبه فراقه إلى حد أن استشعر أثر حلاوته في لسانه، وفي المرة الثانية التي أعاد فيها قراءته كان طلبه قد وصله، فارتشف رشفة امتزجت لذة المكتوب بلذة المشروب، ليغمض عينيه محلّقا في عوالم لا منظورة، ثم فتح عينيه على قارورة المياه المصاحبة لفنجانه السحري كان ثمة إغراء من نوع ما دفعه لأن يمدَّ يده اليمنى نحوها، فطوّقها براحة يده، ثم رفعها بمقدار سنتمترين، وردّها لمكانها، سحب يده عن خاصرتها، وببراجم يديه دفعها قليلا للأمام، ثم تناولها من غطائها ورفعها قليلا، استشعرها تصرخ متألمة من أثر الشد، فتركها تسقط لمكانها، ترنّحت قليلا قبل أن تعود لثباتها، ليتراجع هو مستندا على كرسيه بطريقة مفاجئة، أنَّ منها هذا الأخير، وشرع يحملق في القرورة المرتعشة من أثر التعذيب، مال بجذعه أخرى وتناولها من وسطها، وبطريقة عفوية أدار غطاءها بيده اليسرى وصبَّ المياه في جوفه، كانت باردة بفعل المبرّد الكهربائي، أعاد الغطاء بطريقة غير مُحكمة وأنزل القارورة بعنف، جعلت الماء داخلها يرتجّ، توقف متفكّرا في الغاية وراء تعذيب قارورة مسكينة، لا حول لها ولا طَول، تذكر أنها أنثى، والأنثى يجوز أن يحيق بها العقاب بغير مناسبة، أعجبه هذا الاستنتاج، فتودد له بابتسامة مفتعلة، فخسائره الغرامية مع هذا الجنس لا تعدّ ولا تحصى، ومجرد انتقام خيالي منه هو نوع من أنواع رد الاعتبار لتجاربه المثخنة بالخيبات. هنا باغتته ذكرى أليمة لآخر رد من فتاة ملكت عليه لبّه وكل ذرة فيه لدرجة لم يستطع معها تكتّما فما شعر بنفسه إلا وهو يُفضي لها بذات صدره ويطلعها على مكنون أمره، لاحظ بوادر الدهشة لائحة على وجهها وآثار الحرج بيّنة لا تُخطؤها العين، ألجمها اعترافه فلم تنبس ببنت شفة، وبعد هنيهة سطى فيها عليهما صمت ثقيل، نظرت إليه وقالت:

أنت شاب لطيف وقلبك طيب وإنك لن تعدم من تستحقك في قابل الأيام، وظني بك أنك ستتفهّم ردة فعلي، وأنا صديقتك على الدوام.

حدّق مليا في وجهها الملائكي وجمالها البائس فقال: – إن كنتِ لا تنقمين عليّ شيء في معاملتي معك وطيبوبتي فما المانع إذن؟ إني شخص قبيح، لكن الرب اختار لي هذا الوجه لحكمة ارتضاها، وليس الأمر إليّ فلماذا أحمل غُرم ذنب ليست لي إرادة فيه؟

وقبل أن تجيبه انسحب من أمامها وتركها غارقة في حرجها الطافح، ولم يلقاها إلا بعد سنوات مع رجل غريب حسن التهندم جميل الهيئة وصبي صغير أخذ منها عينيها وشكل مبسمها، كانت خيبة مضاعفة، لكنه تجاوزها على كل حال، تنهّد بعمق، ثم ارتشف رشفة أخرى من قهوته، كانت قد بردت، فقام جهة الكونتوار ونقد النادل ثمن قهوته وخرج هائما على وجهه لا ينوي على شيء.

Exit mobile version