صراع الشمال والجنوب .. جَدلية الانفصال والاتصال

لا تكاد تخلو أية دولة من الصراع بين سكان الشمال وسكان الجنوب بها متخذا عدة أشكال؛ وفي بلدنا الحبيب هو صراع أزلي لا يمكن أن ننعته إلا بالرجعي، يتغذى على إيديولوجيات فارغة وجهل مركب يُصور للشمالي أن الجنوبي أو الذي يقطن المنطقة الوسطى – فليس بالضرورة أن يكون الجنوب جنوباً جغرافياً-، إنسانٌ رديء غير منضبط ولا يتصف البتة بالمروءة، ويستخدم للتعبير عن الإنسان الجامع لهذه الصفات في نظره (العرُوبي)، وحتى استعمال هذا اللفظ لم يكن بالأمر الصحيح من حيث الدلالة فكلمة (العروبي) المشتقة من الكلمة العربية “العَربي” تشير إلى أُمة من الناس سامية الأصل، كان منشَؤُها شبهَ جزيرة العرب، وبالطبع فلا علاقة لها بما حُمّلت من معنى ذهني خسيس ومغلوط.

و يصور كذلك للجنوبي أن إنسان الشمال، – ونفس الشيء ينطبق على كلمة الشمال فلا يقصد بالضرورة الشمال الجغرافي بل قد يكون الشمال منطقة شرقية أو غربية أو حتى وسطى-، شخصٌ مغفل وقد يصفه البعض منهم أنه غير مثقف ولا حَظ له من الحداثة ويُنعث انطلاقاً من ذلك بـ (الجبلي). وهذا الأخير مصطلح يُطلق على من يعتمر المناطق الجبلية، وإن كان هو الآخر لم يُستعمَل بمدلوله الصحيح وإنما حمل من المعاني القبيحة السابق ذكرها وأخرى ما لا يُحتمَل لغة واصطلاحاً.

هذا الصراع في رأيي بالإضافة إلى الجهل، أحدثته الفوارق الحادة بين الشمال والجنوب في العديد من المجالات، فعلى مستوى البنيات التحتية واللوجيستيك خصوصاً في المدن السياحية يتوفق الشمال بشكل رهيب على الجنوب، وهذا ما يفسر النزوح الكبير لسكان الجنوب إلى الشمال لقضاء عطلة الصيف، حتى إن بعضهم يحسب ليوم سفره للشمال ألف حساب، وبالتالي تتكون عنده إن شئنا القول نوع من الغيرة والشعور بالنقص.

يزيد من حدة هذا الشعور الطبيعة البيئية للجنوب الذي يتميز بحرارته العالية، عكس الشمال الذي يتميز بجوه المعتدل والرطب؛ نشير كذلك إلى أن هذا التفسير لا ينطبق على الكل بل يُعنى أساساً بشرذمة تشكل الاستثناء من القاعدة.

في الحقيقة هو صراع فارغ ولا تخوضه إلا تلك الشريحة من الناس محدودي التفكير، ترى في هذه الملاسنات التي غالباً ما تكون في مواقع التواصل الاجتماعي أو في مجالس غير المثقفين من عامة الناس إشباعاً وتحقيقاً للرضا النفسي لديها.

اقرأ أيضاً على مدونة زوايا

إذن ماهي الطبيعة النفسية لمن يخوض هذا الصراع ؟

لعلنا نجد إجابة هذا السؤال في تحديد المفهوم الاجتماعي للانتماء وكذا في المقاربة السيكولوجية لهذه الفئة.

فمفهوم الانتماء الاجتماعي واحد من أهم المفاهيم المركزية التي تحدد طبيعة علاقة الفرد بالجماعة في كل زمان ومكان يقابله على الضد تماماً مفهوم الاغتراب الذي يعني الابتعاد النفسي للفرد عن ذاته وعن جماعته،

وسواء ابتعد الفرد عن جماعته أو غادرها إلى جماعة أخرى، فهو في كلتا الحالتين إنما يفقد انتماءه لجماعته من جانب ويواجه برفض الجماعة الأخرى له من جانب آخر لاختلاف عاداته وقيمه ونمط شخصيته وخبراته [1]. 

وهذا بالتحديد ما يحدث للشخص الذي يخوض غمار هذا الصراع مما يسبب غربته من ناحية وإحساسه بعدم انتمائه لمجتمعه من ناحية أخرى، وبالتالي تزداد حساسيته اتجاه الفئة الأخرى التي لا ينتمي إليها، ومع وجود فراغ ثقافي ومعرفي وعدم إدراكهم لمفهوم الاختلاف والانتماء العام للوطن تظهر لدى بعض الأشخاص تلك التصرفات غير المقبولة.

إن محاولة معرفة ودراسة الشعور بالانتماء لشريحة معينة من المجتمع عند الإنسان، أيا كان ذلك الإنسان، تنطلق من دراسة وعيه ومدى تغذية المعرفة والثقافة لديه لكي تتحول هذه المكونات من حيز الخيال والتفكير إلى حيز اتخاذ القرار، وهو السلوك بعينه، وهو تجسيد لهذا الوعي الذاتي الذي يتحول في مراحل حياة الفرد إلى قوة ذلك الانتماء، هو انتماء إلى الوطن بالدرجة الأولى كما أشرنا ثم يتحول إلى واقع أي ينتقل من مستوى الشعور إلى مستوى السلوك [2].

وهذا السلوك قد يصبح شاذاً عندما يحصره الإنسان في بيئته المحلية ويزداد شعوره بالطائفية، ويتناسى بذلك الشعور العام بالانتماء إلى الوطن كوحدة جامعة لعدد كبير من الروافد والصنوف ومدى حتمية هذه المسألة في حياة الإنسان الإجتماعى بطبعه والذي لا يستطيع بأي حال من الأحوال العيش بمفرده ودون أن يكون الآخر شاهداً على إنجازاته وتصرفاته، فنفسية الإنسان هذا بدون شك لا تقبل الاختلاف خصوصاً عندما يضعه هذا الاختلاف مع الشخص الآخر موضع ضعف.

فالإنسان إذن كما تقدم، مجبول بفطرته على التشبث بأرضه ومنطقته وتفضيلها عما سواها، لكن لا ينبغي في المقابل أن يصبح هذا التشبث انفصالاً وذمّاً للآخر وإنما يجب أن نرى في هذا الاختلاف الجانب الإيجابي وأن نعتبره نقطة قوة لا ضعف، فازدهار السياحة بمدن الشمال وإن كان امتيازا للمنطقة فهو بشكل أو بآخر على حساب خلوها من أقطاب اقتصادية عكس الجنوب والمنطقة الوسطى، وعليه فالتوعية بقبول الاختلاف وتحقيق الحد المعقول من العدالة المجالية أصبح ضرورة ملحة لنبذ هذه الصراعات والسلوكيات التي تنم عن جهل أصحابها.

[1]  د. عادل صادق الحبوري، الانتماء الاجتماعي… أهميته على المستوى الاجتماعي وعلى المستوى النفسي، مقال منشور بموقع “ankawa” بتاريخ  4/8/2008، بدون عدد، تم الاطلاع عليه في 1/9/2019 _ 00:30.

[2] الدكتور أسعد الإمارة، محاولة سيكولوجية لتفسير الشعور بالانتماء للوطن، مقال منشور بجريدة “النبأ” ، بدون تاريخ وعدد، تم الاطلاع عليه في  1/9/2019 _ 00:30.

Exit mobile version