أيام المطعم المدرسي

ذكريات الطفولة عين نابض متدفق وجاري لا ينقطع، لا يتأثر بأيام الجفاف والسنوات العجاف، تغرف منه كل مرة حتى ولو تعلق الأمر بنفس الموضوع، فتراه من عدة زوايا بكل إيجابياته وسلبياته، بكل العقد والحفر التي حفرها الزمان في الذاكرة وبقيت راسخة فيها على مر السنين والأعوام والتي لن تزول إلا بنهاية حياة الإنسان.

في الحقيقة، أنت لا تفكر كثيرا في سنوات الطفولة ولا تبذل مجهودا كبيرا للتذكر، كل الأفكار والصور والأصوات والأحاسيس تكون جاهزة للظهور، فقط تنتظر اللحظة المناسبة، كل تلك الروابط موجودة ومتداخلة بشكل تلقائي، تلك النوستالجيا الجميلة، في تلك الفترة من حياة الإنسان، حينها لا يهمه شيء ولا يفكر كثيرا في كل تعقيدات الحياة ومشاكلها التي لا تنتهي.
ككل المدارس المغربية أو أغلبها على الأرجح، وخاصة التي تقع في القرى والبوادي البعيدة، النائية والمنسية، يوجد مطعم مدرسي، يقدم بعض الوجبات القليلة. مطعم المدرسة في قريتنا لا يشذ عن هذه القاعدة، فرغم أنه لا يقدم وجبات ولا أطعمة متنوعة إلا أن الأمر كان جيدا نوعا ما بالمقارنة مع مناطق أخرى، فالأهم هو أن تجد ما تسد به رمقك قبل العودة إلى المنزل للأكل. الأمر كان يقتصر فقط على وجبتي العدس وسمك السردين المعلب، طبعا فقرية «أﯕليز» بعيدة عن مركز طاطا وقلما يصلها سمك السردين الطازج الذي يأتي من المدن الساحلية القريبة، فحتى مدينة طاطا لا يصلها بشكل دائم فما بالك بقرية بعيدة قابعة بين الجبال.
سائقي سيارات النقل المزدوج في القرية الذين يقومون بنقل الزبائن من وإلى مدينة طاطا يوفرون سمك السردين الطازج أسبوعيا على الأقل لكن بكمية قليلة.
في مطعم المدرسة، تُطبخ أكلة العدس، تلك الأكلة البسيطة التي يلتهمها الأطفال بنهم حين يداهمهم الجوع بعد ساعات الدراسة في تلك الأقسام الباردة.
المطعم عبارة عن قاعة كبيرة الحجم، تطل نافذته على الواحة حيث تقف أشجار النخيل منتصبة منذ سنوات طويلة في وجه المناخ القاسي. الوادي والجبل الشامخ يقف أمامك غير عابئ بكل ما يدور حوله، تشرق الشمس وتطل على الواحة كأنها مختبئة تنتظر ساعات الصباح الأولى لتخرج من ورائه لترسل شعاعها الدافئ داخل قاعة المطعم. حيث تنقسم هذه الحجرة إلى قسمين غير منفصلين، توضع الأواني والمعدات المستعملة في الطبخ في جانب، وتصطف الطاولات الخاصة بالأكل في الجانب الآخر، يجلس فيها الأطفال بعد أن يحصل كل واحد على حصته من العدس يحملها في صحن خفيف الوزن، ويأخذ بعد ذلك قطعة من الخبز، البعض يطلب المزيد بعد التهامه لحصته.

في الأيام الأخرى تكون الوجبة عبارة عن سردين يوضع في قطع الخبز، نوع من السردين السيئ والرديء حيث غالبا ما نقوم برميه ونأكل الخبز فقط بعد أن يكون أمتص صلصة الطماطم أو ما شابه ذلك مما تركه سمك السردين داخل قطعة الخبز.

أتذكر جيدا أننا نصطف ونتناول الوجبة ونخرج بكثير من الانضباط والمسؤولية، طبعا لم نكن نتصرف بتلك الطريقة من تلقاء أنفسنا وإلا أصبحنا ملائكة، فالأطفال يداومون على الشغب والركض والشجار، لكن الأمر راجع في الحقيقة إلى السيدة القائمة على أشغال المطبخ، إنسانة صارمة تعاملنا بشكل جيد ولا تتوانى في فرض الانضباط لكي يعم الهدوء، لا أستطيع أن أنسى ملامحها الصارمة، كل الأطفال يخافون منها، هي تعرف جيدا أن الحرية الزائدة ستسبب لها متاعب، خاصة مع أطفال يافعين في مختلف الأعمار والذين يحتاجون إلى الانضباط وحسن التربية والكثير من التهذيب ولا يتأتى ذلك إلا بتلك الطريقة.
في استراحة العصر أو الصباح غالبا ما كنا نقوم بنشاط جميل وهو سقي الأشجار التي تم غرسها في الساحة وبجنبات الأقسام وبمحاذاة الطريق. نجر خرطوم المياه بعد أن نصله بالصنبور داخل المراحيض ونسقي تلك الشجيرات القليلة التي ما يزال بعضها قائما إلى الآن بعد سنين طويلة، فيما أتت عوامل التعرية ومظاهر الحضارة على ما بقي منها.
هذا المطعم أو هذه البناية العريقة تم هدمها مؤخرا إضافة إلى أقسام أخرى، يعود تاريخ بنائها الى الخمسينيات من القرن الماضي، حيث تعتبر من المدارس الأولى التي بنيت بإقليم طاطا والفضل يرجع في الحقيقة إلى المقاوم الكبير أحمد فوزي الملقب «بشيخ العرب» رحمه الله، حيث وقف حينها على أشغال بنائها ليتعلم أطفال القرية أبجديات الكتابة والقراءة. لقد كانت له نظرة استباقية واستشراف للمستقبل بحكم تجربته وعمله الميداني في المقاومة ومحاربة المستعمر ولمعرفته أن التعليم هو أساس بناء المجتمعات المتحضرة والمتفوقة.
هذه الأقسام تحمل بين جدرانها تاريخ وذكريات العديد من الأطفال الذين مروا هناك، ليتم بناء أقسام أخرى جديدة للأجيال الحالية والقادمة لتكتب وسطها التاريخ الذي يليق بها، فلكل جيل جدرانه التي يعرفها، حين يتركها لا بد أن تسقط يوما رغم صلابتها فتلك سنة الحياة.

Exit mobile version