هاري ترومان .. “بطل” أمريكي أمْ “مُجرمٌ” عالمي؟

نبشٌ تاريخي في سـيرة الرئيس الثالث والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية

في تدوينة سابقة نُشرت بمدونة زوايا، تحدث الطالب الباحث المهدي القشيني عن ذكرى إلقاء أمريكا لقنبلتين نوويتين على المدينتين اليابانيتين هيروشيما وناكازاكي، وعن الشخص الذي أعطى الإذن الرسمي بإلقائهما هو الرئيس الأمريكي هاري س. ترومان، الرئيس صاحب الخبرة الشبه منعدمة في الشؤون الخارجية الأمريكية، ألقى أمراً هو واحد من أهم الأوامر في تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية، أمرٌ سينهي الحرب العالمية الثانية، لكنه فتح مسار حرب طويلة لا زالت آثارها ليومنا هذا، سُمِّيت بـ”الحرب الباردة”.

فكيف كانت نشأةُ هذا الشخص الذي أصبح في لحظة مفاجِئة سنة 1945 رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية؟ ما مسار تكوينه السياسي؟ و كم استمرّ حكمه؟

ولد هاري س. ترومان في الثامن من ماي 1884 ميلادية في لامار ولاية ميسوري (2)، و كان الابن الأكبر لجون اندرسون ترومان وَمارثا إلين يانج ترومان من أصل ثلاثة أطفال.

كان أبوه مزارعاً وتاجراً للماشية؛ في سن مبكر عانى ترومان من ضعف نظر قوي، وكان بحاجة لنظارات سميكة وغالية، وكَصبي كان ترومان مهتما بالموسيقى والقراءة والتاريخ بتشجيع من والدته (3)، حيث قد قضى معظم شبابه في مزرعة عائلته بعد التخرج من مدرسة الثانوية، ولم يستطع ترومان الذهاب إلى الكلية بسبب ضيق أوضاعه المالية وإفلاس والده سنة 1902، فالْتحق ترومان بعد ذلك بصفوف مسائية في القانون، غير أنه لم يتخرج يوما (4)، فترومان هو الرئيس الأمريكي الأخير الذي لم يحصل على شهادة جامعية، فزاول العديد من الأعمال بعد تركه المدرسة (5)، حيث عمل في محطة القطار وفي المصرف، وفي عام 1906 عمل في مزرعة عمه، وبعدها انضم إلى فوج المدفعية الميداني الثاني في ميسوري.

تقرؤون أيضاً على مدونة زوايا

خلال الحرب العالمية الأولى، اشتغل ترومان كضابط وقائد مدفعية في فرنسا في وحدة الحرس الوطني 1918 (6)، وكانت هذه التجربة تحويلية، جلبت لترومان الصفات القيادية. بعد عودته من الحرب تزوّج من بيس واليس سنة 1919م (7)، وقام بفتح محل خردة بشراكة مع صديقه جاكوبسون في مدينة كنساس سيتي، وبعد فشل مشروعه، انضم إلى الجهاز السياسي للحزب الديمقراطي لتوم بندرجاست وتم انتخابه سنة 1922 كقاضٍ في محكمة مقاطعة جاكسون ميسوري.

وفي سنة 1924 أعيد انتخابه كقاضي المقاطعة، وفي سنة 1926 انتُخب لمنصب رئيس القضاة في المنطقة، وبعد الخدمة كَقاضٍ أراد ترومان الترشح للحكم بدعم من بندرجاست، وترشح بذلك ترومان وبدأت حملته السياسية، وفاز في انتخابات الحزب الديمقراطي سنة 1934(8)، و يعود الفضل بذلك لبندرجاست، على الرغم من الفساد الذي عكسته نتائج الانتخابات(9).

وكـسيناتور، استطاع ترومان إثبات نزاهته وعدم قبوله للفساد، وخلال الدورة الانتخابية الثانية لمجلس الشيوخ سنة 1940، كانت الفترة الأصعب لكون بندرجاست الداعم الأول لترومان سُجِن بتهمة الاحتيال في الانتخابات، وكذلك تم الحجز على مزرعة والدته ونقص الأموال، إلا أنه خاض هذه المعركة ضد خصمه لويد ستارك الذي كان مدعوما من طرف روزفلت رئيس البلاد، ومع ذلك فاز ترومان للمرة الثانية وتم تعيينه عضوا في لجنة الشؤون العسكرية في مجلس الشيوخ(10). 

وفي سنة 1944 قرر روزفلت اسم الشخص الذي سيترشح لمنصب نائب الرئيس بعد إسقاط نائبه السابق هنري والاس لتوجهاته اليسارية وهذا النائب هو ترومان(12)، و تم إعادة انتخاب الرئيس روزفلت للولاية الرابعة، وقد قابل ترومان الرئيس مرتين بعد توليه المنصب(13).

وبعد ثلاثة أشهر على بداية الولاية الجديدة سنة 1945 اضطر ترومان لأخذ مكان روزفلت بعد وفاة هذا الأخير والذي تلقى ترومان خبر وفاته كالصاعقة(14)، وبذلك أصبح ترومان الرئيس الثالث والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية، تولى منصب خلافة روزفلت بخوف وتردد كبيرين، خصوصا أنه لم يكن له أي  اطلاع مسبق بالسياسة الخارجية الأمريكية بسبب احتفاظ سلفه بها، وزادت تخوفات الكونغرس خصوصا أن الرئيس ترومان لم يزر أوروبا إلا مرّة واحدة، ولا يحمل أية شهادة جامعية.

واجه ترومان كرئيس مشاكل ضخمة، بداية مع مؤتمر تأسيس الأمم المتحدة وترتيبات ما بعد الحرب في أوروبا، بالإضافة إلى الحرب التي كانت تدور في المحيط الهادي ، واستطاع ترومان مواجهة هذه المشاكل؛ وقد اتخذ أثناء هذه الأحداث قرار استخدام قنبلة ذرية ضد اليابان(15)، التي كانت لا تزال تقود الحرب، وبذلك تم إلقاء قنبلتي هيروشيما وناكازاكي بغية تقصير مدة الحرب، وإنقاذ حياة الكثير من الجنود الأمريكيين مع إبعاد الاتحاد السوفياتي من تلك الجزيرة، وبذلك انتهت الحرب العالمية الثانية. ومع زيادة حدة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي أعلن ترومان في 1947 أمام الكونغرس ما سماه مبدأ ترومان بأن تحصل الدول التي يتهدد توازنها السياسي من قبل الشيوعية على دعم مادي ومعنوي، ناهيك عن خطة مارشال التي يعتبر برنامج إغاثة للدول الأوروبية (سنخصص مقالا كاملا للحديث عن مبدأ ترومان الذي سيكون سببا في اندلاع الحرب الباردة).

لمْ تلقَ كل قرارات ترومان النجاح، خصوصا ما يتعلق بفلسطين؛ التي وقَّع في إطار علاقته مع بريطانيا على إعادة بناء وطن لليهود في فلسطين سنة 1945، والاعتراف بـ’إسرائيل’ بعد ذلك كدولة ودعمها اقتصاديا وعسكريا. 

ترشح ترومان للرئاسة سنة 1948، و كان خصمه الجمهوري توماس ديوي حاكم ولاية نيويورك ، مما خلق منافسة قوية لترومان، ومع ذلك فاز ترومان بالولاية الثانية. 

لم يستطع ترومان أن يؤثر على صعيد السياسة الداخلية بسبب تُهَم الإهمال وعدم مواجهته للتغلغل الشيوعي(16)، لكن في المقابل أظهر ترومان إرادة قوية في المجال الخارجي حيث أنه عندما غزت كوريا الشمالية الشيوعية كوريا الجنوبية سنة 1950م، بعث ترومان على الفور القوات الأمريكية واكتسب موافقة الأمم المتحدة على الحرب الكورية(17).

انتهت ولاية ترومان سنة 1952، و أعلن عدم رغبته في الترشح لولاية أخرى، وانتقل عام 1953م برفقة زوجته إلى ميسوري حيث كتب مذكراته، وعاش عشرين سنة خارج البيت الأبيض قبل وفاته سنة 1972م جراء خلل عضوي.

الإحـالات:

  1. Senate Historical Office
  2. Allen R.Potter,the Truman-MacArthur controversy a study in political-military relations,National technical information service,USA,university of Washington,1955,p4
  3. أودو زاوتر، رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، دار الحكمة-لندن،ط1،2006م،ص228-229 
  4. نايجل هاملتون،القياصرة الأميركيون، شركة المطبوعات للتوزيع و النشر، بيروت،لبنان، ط1،2012م، ص81 
  5. أودو زاوتر، المرجع السابق،ص229- 
  6. Allen R.Potter,the Truman-MacArthur,p5
  7. أودو زاوتر، المرجع السابق،ص229
  8. نايجل هاملتون، المرجع السابق،ص84-85
  9.  Allen R.Potter,the Truman-MacArthur,p5
  10. نايجل هاملتون،المرجع السابق، ص87-88-89
  11. Senate Historical Office: https://www.senate.gov/artandhistory/history/common/image/TrumanDesk.htm
  12. أودو زاوتر، المرجع السابق، ص230 
  13. نايجل هاملتون، المرجع السابق، ص91
  14.  نايجل هاملتون، المرجع السابق، ص92  
  15.  راجع المقال السابق المنشور بـ”مدونة زوايا” تحت عنوان: في ذكرى هيروشيما وناغازاكي للطالب الباحث المهدي القشيني.
  16. نايجل هاملتون،المرجع السابق، ص114
  17.  المرجع السابق، ص 234 

هاري ترومان بطل أمريكي أمْ مُجرمٌ عالمي

مدونة زوايا

زوايا فريق شاب مؤلف من 10 شباب عرب مختلفي التخصصات والاهتمامات و غزيري الأفكار يجمعهم حب التدوين والرغبة في إثراء الويب العربي بمحتوى مفيد فريق زوايا ذو أفكار خلاقة وعزيمة متأهبة يعدكم بمحتوى مدوناتيٍّ أقل ما يقال عنه أنه استثنائي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *