محمّد شكري .. “صُعلوك” قلبي!

قرأتُ، هنا على “زوايا”، تدوينةً هزّتني بلا هوادة، استَحثّتْني مثلما يستحِثُّ المِهماز خاصرةَ الأصيلة، مثيرة في النفس زوبعةَ دخانٍ تلاشَتْ وإكمالِي لما جاءت به تدوينتي هذه من أحرف وكلمات. إن عباراتي هنا لَتُخبِركم عما يعتلج في الحنايا، لإسماعكم نبضَ قلبٍ يكتب عن سجيّته وتفيض عواطفه بصدق ومحبة مُفصِحاً عن إنسان اختبأ فيه طويلا وها أنا قررت إخراجه لكم.

كوثر بلحداد

كان والدي يملك من الكتب ما يملك، فكانت تلك المكتبة الصغيرة المبعثرة مدخلي الأول لعالم القراءة. إلى أن أمسك يوما كتابا بعنوان “الخبز الحافي” وتمتم قائلا “لا تقرئي هذا الكتاب!” . والله ما كانت الصبية التي بداخلي  لأبيها عاصيةَ أمرٍ ولا نوَت أن تكون، إلى حينِ يمَّمت وجهها وهي بدار جدتها شطر نفس الغلاف، علمت بعد السؤال أنه لأكبر خالاتها سنا. همت تتصفحه بفضول حتى وجدتها غارقة فيه، غير راجية النجدة. فلقد كان غرقا لا مخالب للموت فيه تكمن ولا تحالف الموتى بالأكفان منه يقترب. لقد كان غرقا في “مرحلة هامش إنسان” يطل على بدايات الحياة لا على مشارف نهايته؛ وثم والله أنها أقدمت على ذلك بلا سابق تقتفيه ولا ذي مثال تحتذيه. 

كانت كوثر جلست بعيدا ومحمَّدَها ، تقرؤه وكأنها تفهم وتتوقف وكأنها لا تعلم، حتى إذا مالت الجملة بها ميلها وجر الحرف فيها ذيله، أغلقته دهشة. فقسما ما هذه النوى التي حملت نفسها هربا من تنبيه الوالد ! ثم أنهته بدمع وقول ” أعوذ بالله أن أرمي شكري بلائمة تنقص من قدره أو أعيبه بما يحط من أمره ” فقد علمت لتوها أنه كتاب سهل فهمه لحديثي العهد بالآداب مثلها، والآخذين في العلم رشدهم، والبالغين في المعرفة أشدهم ولكن…؟

 لكن شكري ثلب فأردى واحتقر فأزرى، فهو في صباه من الضر امتطى أمرا مُرَّا. سال مداده دون حاجة إلى برقع ولا تجليل اسم أو نسب وهنا الفضل  ل “الخبز الحافي” الذي بحث عنه فلم يجده ثم وجده دون أن يملأه من خُرديق يعود. 

من أقصى ريف مملكة المغرب بلغ من الخصاصة وذويهِ أشُدَّها، فانطلقت هجرتهم تترقى؛ ماكانوا في ثروة لها بردة الطرب تسقى، جابوا الآفاق وتقصَّوا البدو والحضر. حتى إذا أخذت منهم الهاجرة أقساطا وَلَّوا أعِنَّتَهُم بفناءٍ رحبٍ لدار عيشٍ رطبٍ يَلْقَون فيها من النُّزُل أرحبها ومن ثمار الشمال أجوَدها .

تقرؤون أيضاً على مدونة زوايا

وصلوا -جنة الفقراء- طنجة كما سمعوا عنها، وليتهم ما وصلوا، فحتى الماشي فيها ما كان، ثم حتى القرع بقرعيته ما وجد، فاضطربت معدته وغثَت نفسه جوعا. حتى إذا بلغه الأخير بلوغا لم يفضض عقد الضلوع أو يفضن ماء الدموع ويتداعى باسم “الجوع”. لكنه وجد في عروس الشمال رفاقا ضموا رحلهم به وماكان نجد يجذبه بعيدا عنهم ولا وهد يلتقمه. كان شكري أيقظهم قلبا وأشدهم دُؤَبا في همه. مرت بساعاتها  عليه الأيام فأصبح غوره وبطنه يأخذانه معهم إلى حيث ينسى ما ملكه من الجبل وحزنه. فأخذ يهمر العضون الناعمات ويجتني ورد الخدود الموردات، يركض طرفه إلى كل غواية وعماية حتى شرب من العمر الصغير صائغه ذ. 

إنهم يقولون إن الخبز الحافي ليس بغزير الفوائد ولا كثير الفرائد، لا يمكن أن يستفيد منه العليم ولا أن يهتدي به الناشئ في التعليم، إنه مجرد كتاب يذهب الذهن عن اللامعقول إلى الممنوع، أن سطوره صحراء يضل فيها الضعيف ويحار فيها القارئ ما خلفها وفيه ما يستحي الأديب من قراءته ويخجل منه. لكن قولي أن الخبز الحافي لا يكتمل إلا بعد قراءة “الشطار” ثم “يهجوه” 

فهما لرصد مغامرات شكري المجنونة والعبثية ما بين الريف وطنجة، مُرَكِّزين على الكيفية التي ولج بها شكري عالم النور  لأول مرة، وهو كبير السن رغبة في الانسلاخ من الأمية ومحو الفقر. بيد أن المدير رفض قبوله فتدخل من المراسيل مرسَل، طلب المدير فامتثل،  وسأله عن حال الشرغوف فأخبر ، فأصاب الريفي الصغير دالته ووجد ضالته؛ فأخذ يهدم بناء من الأمية مشمخرا، والجا عالما يكسوه زهر الربيع و نجوم الليل بعد هزيع بوجه مضي وأخلاق رضية. 

وبعد امتحانات أولية  تم ضمه إلى تلاميذ المدرسة الابتدائية، وبدأ حياته الدراسية بطريقة عصامية تعتمد على التعلم الذاتي على الرغم من كبر سنه وفقره المدقع ذلك أن التقدم لا يتم إلا بإحدى  القسمتين : إما نسب شريف أو علم منيف، وهذا الأخير هو بشيء يحمَل على الرؤوس حامله، ولا ييأس منه آمله، فاختاره الصعلوك ومنه للتعليم تدرج وصولا لعالم الكتابة .

كان عليَّ يوما أن أحدث معشر زملائي وزميلاتي وأستاذتي في مادة التواصل بالعربية عن كتاب قرأته فاخترت أكثر ما علق بالفؤاد بصفحاته كاملة “الأعمال الكاملة للشحرور الأبيض، فأخذت في الحديث والإحساس فياضٌ بدءا من تعريف شكري مرورا بالحديث عن شاعرية البوح في سيرته واستعماله لضمير المتكلم “أنا” وصولا لقولي والعين دامعة: صدقوني لو كان كل واحد منا يملك جرأة محمد شكري لَحَقَّقنا الكثير! ! 

صفق الحاضرون تصفيقا وطُلِب مني أن أعيد العرض أمام طلبة السنة الثانية، ففعلت. وتكرر الأمر أمام رئيس الشعبة وباقي الأساتذة بعد إلحاح أستاذتي فتمردت دفاعا عن صعلوكي، وأنا هنا أقصد بالصعلوك معناها الأصلي القديم في لغتنا وليس معناها المشوه اليوم. 

إنني أتمنى في الحياة شيئا واحدا هو الارتباط بشخص يملك من الجرأة ما ملكه حبيبي الراحل ! شخص باستطاعته أن يقول: أنا فعلتُ وفعلت، دون كذب ومراوغة. وقبيل ذلك أتمنى أن أفعل ذلك يوما دون حاجة للإخفاء ودون خوف من مخاطر بَوْحِي !

كوثر بلحداد

مدونة زوايا

زوايا فريق شاب مؤلف من 10 شباب عرب مختلفي التخصصات والاهتمامات و غزيري الأفكار يجمعهم حب التدوين والرغبة في إثراء الويب العربي بمحتوى مفيد فريق زوايا ذو أفكار خلاقة وعزيمة متأهبة يعدكم بمحتوى مدوناتيٍّ أقل ما يقال عنه أنه استثنائي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *