كيف تضامنت لطيفة الزيات مع المتمردين مجتمعياً؟

أوْمَأت الأديبة الراحلة – الدكتورة لطيفة الزيات – في روايتها “الباب المفتوح”، إلى صراع احتدم – خلال النصف الأول من القرن العشرين وبداية النصف الثاني – بين فكر يَميني محافظ وراغبِي التملص من تحت وطأته على صعيد الحياة الاجتماعية. تبلْوَر هذا العِرَاكُ في حياة أسرة مصرية يحمل رب هذه الأسرة راية الفكر اليميني وتنصاع معه ربة هذه الأسرة لاسيما وأن شقيقتها – الأرملة – صاحبة ميول يمينية هي الأخرى؛ فكان هذا الولاء الناصع لأفكار المجتمع النمطية يحتم على رب هذه الأسرة بسط هذه الأفكار على عقل ابنه محمود وإسباغها على ابنته ليلى التي ستعاني وتنكسر وتُنَمَّط، ثم تنتفض – بفضل النبراس الذي دخل حياتها (حسين عامر) – وتحطم بدون هوادة الأصفاد المجتمعية المبلورة في صورة أفكار نمطية شائنة كادت تقتل روحها البريئة وحياتها وتنزع منها إنسانيتها، على عكس محمود الذي كان يقَوِّض كل قيد يحُول بينه وبين قناعاته إلا قيدا واحدا ظل واقفًا مكتوف الأيدي إزاءه؛ وهو تحرير أخته ليلى من هذه الأصفاد الرجعية.

فبالرغم من مرور عقود طويلة، إلا أن كنْه هذا الصراع لم يُطمَس في ثنايا هذه العقود والأحداث السياسية والاجتماعية إلى غير رجعة، بل ظل محتفظًا برونقه؛ ففي وقتنا الراهن لم يتوان مجتمع المال والسلطة بوحدات بنائه التي تتمثل في الأسَر عن تعقب كل فار برسالته الحياتية من براثنه، بل يلاحقهم بسيل من العبارات المثبِّطة – «عيش عيشة أهلك» – تارة، وأسواط كلامية هدفها هو ترسيخ الخوف في أفئدة الفارين من نمطيته اللعينة تارة أخرى، ناهيك عن تفججه في تفريغ العلم من هدفه الأسمى والوظائف ذات الطبيعة الإنسانية من مآربها الإنسانية، بل يتحين أفراده الفرصة المواتية للنكاية في كل عازف عن التعقل بالعقلية القطيعية.

ففي مجتمع المال والسلطة لم يتورع أفراده عن محاولات تنميط أبنائهم، فلا يجدون غضاضة في مطالبة أبنائهم في اللهث وراء الأموال بغض النظر عن ما تحبذه نفوسهم، فمقياس النجاح الأساسي في هذا المجتمع يتمثل في جني الأموال مما يترتب عنه تداعياتٌ شائنة تتمثل في جعل مهنة كمهنة الطب – مثلا- مهنةً تجارية، أي أن مطالبة أرباب الأسر أبناءهم ولوج كليات العلوم الطبية ذات مغزى يكمن جوهره في جهتين على الترتيب؛ الظفر بالأموال، والوجاهة الاجتماعية، مما يؤدي إلى تنحية كنهها الإنساني جانبًا وإشاحة وجوههم عن رغبات أبنائهم ومَواطن مهاراتهم، وجعل مهنة أخرى مثل المحاماة أداة لإرهاب الناس، لا سيما في المجتمعات الريفية التي تكون فيها المعرفة القانونية محدودة مما يؤدي إلى تفريغ هذه المهنة من هدفها الجوهري الذي يجعل من المحامي – أي المدافع عن الحقوق –  مناضلا لأجل عدم تحقيق العدالة. 

أما بالنسبة للوظائف القيادية في مجتمع المال والسلطة، فقد تم سلخها من المسؤولية الضخمة التي من الممكن أن ينوء بها كاهل أي فرد وترصيعها بما يترتب على الظفر بها من مكانة اجتماعية في نظر أفراد المجتمع وأموال ونفوذ ونظرة المهابة التي تنظر إلى الشخص متبوِّئِ هذه الوظيفة؛ مما يسفرُ بلورةَ هذه الوظائف في صورة ثمرة يتنافس المتنافسون على قطفها حتى ولو كان هذا على أنقاض المبادئ التي تمليها الفطرة الإنسانية أو كرامة الإنسان التي في الغالب تذهب سُدى تحت نَيْر التملق لكل صاحب سلطة، أضف إلى ذلك استخدام العلم في مجتمع المال والسلطة كوسيلة للوصول للسلطة أو الحصول على وظيفة؛ مما يتمخض عنه طرح مبدإ “العلم لأجل العلم” أرضًا.

هذه الأوضاع الراهنة سالفة الذكر لم تختلف كثيرًا عن أوضاع الأسرة التي كانت في رواية اليسارية الراحلة، فالأموال التي هي الغاية الأسمى اليوم، جعلت (خالة ليلى) تزوج بنتها الوحيدة (جميلة) لرَجل ثري يكبرها بسنوات طويلة دون وجود أي توافق بينهما، والمكانة الاجتماعية هي التي جعلت والد ليلى يوافق على خِطبة بنته (ليلى) لأستاذها في الجامعة (الدكتور فؤاد) – المتغطرس- صاحب الميول اليمينية، كما أن نمطيته المفعمة بالصَّلَف والطبقية، وخشيته من نظرة المجتمع – لاسيما مجتمع الذوات – إليه وإلى أسرته أيضًا دفعته دفعًا إلى محاولة إثناء ابنه عن الانضمام للهبات الشعبية المندِّدة بالاستعمار الإنجليزي، أو الانضمام للمقاومة الشعبية المقارعِة للعدوان الثلاثي في بورسعيد، بل مقاطعته عقابًا له لارتباطه بفتاة – سناء صديقة ليلى- من أسرة بسيطة الحال.

على صعيد آخر، تعكس هذه الرواية اختزال دور المرأة في الزواج والإنجاب آنذاك وهذا ما جعل جميلة تقبل بزوج ثري بعد التسليم لإلحاح والدتها للموافقة عليه رغم البؤس الذي تكبدته بعد ذلك؛ وأودى بها إلى انزلاقها في خانات الخيانة مع (صدقي) بعدما فشلت في إقناع والدتها برغبتها في الطلاق الذي يصل إلى حد الفضيحة بالنسبة لها، وسعي والدة ليلى في تحين فرصة مناسبة لكي تربط ابنتها برباط الزوجية، وقناعة خديجة صديقة ليلى بوجهة النظر هذه. لم تتباين الصورة التي تبلورت في الرواية كثيرًا عن دور المرأة الذي تم حصره في الزواج والإنجاب عن الوضع الحالي، ولا يوجد ما يعضد هذا الادعاء أكثر من قول إحدى الزميلات (أغلبية الفتيات في الوقت الراهن تضَعن الدبلة نصب أعينهن خاصة في ظل الضغوطات التي يتعرضن إليهن من مجتمع الأقارب والجيران)، وقول زميل آخر (البنت لو لم ترتبط قبل أن تكمل عامها الثاني والعشرين ستعيش حياة مريرة وأبسط العبارات التي ستلاحقها ستكون قَطْر الزواج فاتك).

كما فضحت الرواية ذكورية مقيتة تمثلت في رغبة الدكتور فؤاد في الارتباط بليلى لكي يتمكن من فرض ذكوريته المستبدة عليها، فرغبته للارتباط بها مرجعها إلى كونها فريسة في المتناول؛ فإلى جانب جمالها وهدوئها كانت مطيعة لا يمكن أن تتمرد عليه فكان يود أن تكون بمثابة أداة طيِّعة في يده، وهذا ما نبش في ذكريات خاصة بي مع زملاء الدراسة؛ فبصراحة فجَّة يرى زميلان من زملاء الدراسة أنه ينبغي على كل شاب الارتباط بفتاة تصغره بحفنة من السنوات لكي يستطيع أن يبسط شخصيته عليها، ويحكي لي زميل آخر عن أخيه فيقول لي إنه انفصل عن خطبيته لأنها تناقشه في القرارات التي تتعلق بمصيرهما، كما لم يخجل معلم المستقبل – زميل يدْرُس في كلية التربية – في أن يقول إن رغبته في تشكيل شخصية زوجته على هواه هي المسوغ لارتباطه بفتاة تصغره بخمس سنوات. لذا فشخصية الدكتور فؤاد صنيعة ذهن الدكتورة لطيفة الزيات تمثل عددًا لا يستهان به من الرجال عبر العقود الماضية المتواترة، والذين ينظرون إلى المرأة كملاذ آمن لإفراغ الشهوة الجسنية، وإرضاء للذكورية المستبدة لا كرفيقة حياة.

بالتالي، وفي خضم هذا الصراع، كان تمرد ليلى – الحرة – على حياتها وضربها بالقيم المجتمعية عرض الحائط – وذلك من خلال سفرها لبورسعيد للمشاركة في تضميد جرحى الحرب – بعدما رضخت لمحاولات تنميطها بعد انكسارها فور اكتشافها خيانة حبيبها عصام، كان انتصارًا لنزعتها الإنسانية التي كادت أن تذهب أدراج الرياح لولا النبراس – حسين عامر – الذي ساعدها على إحيائها من جديد من ناحية أولى، وصفعةً على وجه المجتمع بعاداته وتقاليده التي كانت جاثمة على صدرها من ناحية ثانية.

من خلال ما سبق، نكاد نجزم بأن تشابك الدكتورة لطيفة الزيات مع القيم المجتمعية وإبرازها لمعاناة رافضي هذه القيم والتحولات التي يمرون بها على الصعيد الفكري والنفسي آنذاك – في القرن العشرين- كان تشابكاً لا يمكن أن نقول عنه أنت وليد اللحظة، لأن المعاناة ما زالت مستمرة في الوقت الحالي، ولا سبيل للنكوص عن التشابك مع قيم مجتمعية رجعية تضرب بجذورها في الماضي السحيق.

مدونة زوايا

زوايا فريق شاب مؤلف من 10 شباب عرب مختلفي التخصصات والاهتمامات و غزيري الأفكار يجمعهم حب التدوين والرغبة في إثراء الويب العربي بمحتوى مفيد فريق زوايا ذو أفكار خلاقة وعزيمة متأهبة يعدكم بمحتوى مدوناتيٍّ أقل ما يقال عنه أنه استثنائي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *