تدوينة متصدرة

رواية المغاربة .. فحص التاريخ بعين الأعمى! 

قراءةٌ نقدية في روايةٍ تُعتبر من أروع وأجرإ منجزات #الأدب_المغربي

” لا شيء يكتمل هنا… “

في واحدة من أجْرإ وأعمق وأقسى مُنجزات الأدب المغربي، وبعد أعماله السابقة (ليل الشمس، زغاريد الموت، الموريلا الصفراء، وكتيبة الخراب …)، يطل علينا المدير الجهوي لوزارة الثقافة بجهة تادلة أزيلال، عبد الكريم الجويطي برواية “المغاربة”، حصلت على جائزة المغرب للكتاب سنة 2017، ووصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية في نفس السنة. 

تقع “المغاربة” في 399 صفحة، موزّعة على فصول بعضها معنون، والبعض الآخر يقترح لها الكاتب إمكانيتين يختار منهما القارئ عنوانا مناسبا. 

” شعبٌ من الملائكة يرتكب ما يُذهل الشياطين نفسها” 

هي رواية وضعت ترسبات تاريخ المغاربة داخل قصة شاب سَلَّمهُ نور الحياة إلى ظلامها فأضحى بعد أن ركض طويلا بين الأولياء والأطباء أعمى، كما سلمت رمال الصحراء وحروبها شقيقه العسكري للعرج بسبب لغم. 

ينسج محمد مع خادمة الجيران صفية قصة عشق بعدما فتنتهُ بصوتها وهي تؤدي (تاماوايت)، ذاك الإنشاد الأمازيغي الذي يتنازل فيه الجبل الغامض المهيب عن كبريائه ويسكن كلمات حزينة تفتت الحصى والغصص وتذروها في الريح. 

اختير محمد إلى جانب عميان آخرين ليجالسو الباشا طه بوزكري! فلِماذا يا ترى كانت مجالسة الباشا حكرا على العميان؟

في المدينة تُكتشف مقبرة جماعية لجماجم حيرت السلطة فتعاملت معها كما كانت وما زالت تتعامل مع القضايا المزعجة في كل تاريخها الممسوخ: لجنة للتحقيق تتكون من شخصين، واحد أعمى والآخر أبله، ويدٌ خفيةٌ تحول اهتمامات الناس إلى فضيحة أخرى! 

بهذه المهزلة تستغل السلطة ذاكرتنا القصيرة وشغفنا العابر بالقضايا لتواجه حقيقتها التاريخية!

يستعين محمد بسمسار أعمى لخطبة صفية، فيأخذها منه ويتزوجها، ليبقى الأول وحيدا أمام رياح الضياع، والثاني في مواجهات وخزات الضمير. شخصان وحَّدهما العمى وبُؤْسه العميق، وفرقتهما الأهواء وحب النفس، لينتهيا معا تحت نافذة واحدة ويطويا حياتهما، “فما قيمة نصر استوى على كل هذا الخراب؟”. 

“انتهى كل شيء وصار بإمكاني أن أتعامل مع ما يجري بحياد تام، هو الآن ممدد بجانبي شبه جثة هامدة، ونحنُ مرميان في سيارة إسعاف لا تتحرك بالسرعة المعتادة، بل إنها لم تُشغل منبها وبدل ذلك شغل سائقها شريط أغنية صاخبة كأنه يسير في موكب عرس.” يقول محمد الغافقي. 

استعان الجويطي بالعسكري كأخ لبطل الرواية ليمرر رسائل عديدة عن المغرب والمغاربة والتاريخ والحروب والحكام … وليجيب به أيضا عن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل من يسمع عن الرواية، من أعطى هذا الكاتب حق الكتابة عن المغاربة؟ 

يجيب الجويطي على لسان العسكري:  “… ومن أعطى للفنانات والفنانين الرديئين والعاهرات والقوادين وحثالة السياسيين والصحفيين هذا الحق؟ أنا على الأقل سَفِح بعض دمي في صحرائه، وخربتُ حياتي وأنا أدافع عنه.”

تقرؤون أيضاً على مدونة زوايا

محمّد شكري .. “صُعلوك” قلبي!

“الخبزُ الحافي” الذي قرأت

ستيفان زفايغ : عندما يعيد الأدب اكتشاف خبايا النفس البشرية

لم يدَع الجويطي شِبرا واحدا من حياة المغاربة إلا ونبشه، وكل قبسة عنده لها ما يؤكدها في حياة المغاربة:

نُقْبل على العيد كأننا نُقبل على مجاعة! أينما ولينا وجوهنا نرى تخاطفا للمواد الغذائية والمشروبات، نجمع ونرتب ونخزن كما لو أن الأسواق لن تُفتح بعد العيد. 

القبيلة: “… لن تفهموا منطق القبيلة. نحن نتحابُّ ونتباغض في الآن نفسه، نقسوا على نفسنا ونتراحم، ندفع الواحد منا إلى الهوة السحيقة ونمد له يد الخلاص التي يتشبث بها في آخر لحظة لينجو. نحن نرقص بين النقائض وأطراف الأشياء، لا حبنا حبا، ولا بغضنا بغضا. نفجر في الخصام، ونرعوي، ونصفح حين نتمكّن من خصومنا. ولا نسير في شيء أبدا إلى منتهاه… “

الانتخابات: “… من جهة هناك صناديق ومراقبون ومحاضر لا يشكك فيها أحد، ومن جهة أخرى هناك يدٌ حاذقة تعيد ترتيب ما أفرزته الصناديق وتوجيهه عبر ما يسمى بالتحالفات حيثما شاءت.” 

الشؤون الدينية: ” كم يحزنني هذا الاستهتار بالله في تنظيم صلاة الاستسقاء بعد أن تخبر توقعات الطقس بأن الأمطار قادمة.” 

ولأنه يرفض أيضا منطق الحرب، تساءل كما تساءلتُ أنا ذات لحظة عن حروب الصحراء: ” ماذا أنتجت هذه الحرب الطويلة من أفكار جديدة في البلد؟ ” 

الكتابة عند عبد الكريم “هي فعل المقاومة الوحيد والمتبقي في بلد صمتت طيوره عن الغناء، وصارت أزهاره ترفض أن تتفتح في الصباح، وتوقفت أشجاره عن النمو، بلد أتى عليه حين من الدهر صارت فيه رايته مِنشَفة يجفف به المغنيون التافهون عرقهم في السهرات، والعاهرات يحاضرن فيه عن الفضيلة، واللصوص يقومون فيه بالدعاية لمحاربة الجريمة، والماضي يشرف فيه على التحديث. بلد غريب بنُخبٍ جديدة غريبة، يشقُّ طرقا ويبني موانئ ومطارات ويغوى الاستثمارات، ولكنه ترك الإنسان يتعفن في المجاري الآسنة للجهل واللامبالاة والتشدد الديني الأخرق.” 

ولأن الرواية أكثر الأجناس الأدبية قابلية لإحتواء باقي الأنماط، انفتح الجويطي في “المغاربة” على أنماط إبداعية أخرى جعلتها لوحة فنية ساحرة امتزج فيها التاريخ والشعر والمسرح والشذرة والأغاني بمختلف لغاتها … مما يؤكد أننا أمام قارئ عظيم وكاتب موسوعي جَلد المغاربة بلا رحمة، وجلد الساسة ورجال الدين، وقدم التاريخ الحقيقي للمغاربة كما يجب أن يقدم لا كما كتبه المنتصرون! فكَّك القبيلة والمخزن والدين لِمَا لهذه العناصر من أهمية في تاريخ المغاربة، وحاكَم الماضي بعينٍ إختار لها العمى لعلنا نُبصر الحقيقة! تلك الحقيقة التي أُريدَ لنا ألا نعرفها؛ حقيقة السلطة والمخزن والدين والاستبداد والبطش والزوايا والأولياء والأضرحة. 

فهل لنا نحن “المغاربة” أن نعيد النظر في مسلمات التاريخ؟!

هي من الروايات التي تُقرأ وتقرأ من جديد، ولا تحتمل التأجيل…

يونس أوعلي

كاتب ومدون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *