“مستقبل العقل”.. عبارةٌ ارتبطت بالعالِم ميتشيو كاكو

عن قُدرات الدماغ البَشري ومستقبل البحث العلمي

Michio Kaku” هو عالم أمريكي ذو أصول يابانية، مختص بمجال الفيزياء النظرية ومتخصص في نظرية الحقل الوَتَري (String Field Theory).. نعتقد أنه يتحدث عن الخيال العلمي ولكنه يشتغل كعالم مستقبلِيّات. “كاكو” هو عاشق لتبسيط الفيزياء للجميع وله لقاءات كثيرة في عدة إذاعات، وكتُبُه دائما لها مرتبة عالية من المبيعات، ومن أقواله التي أثارت اهتمامي: “ربما كانت أكثر مناحي الطب الجزيئي إثارة في المستقبل هي إثبات أن الشيخوخة ذاتها قد تكون مرضا قابلا للعلاج”.

إن كل ما جاء في كتاب “مستقبل العقل” والذي هو آخر كتب كاكو، هو واقعي ويحدث الآن في مختبرات العالَـم، وهناك أشياء خرجت إلى الواقع لاختبارها وتطويرها؛ ميتشيو يشبّه الدماغ البشري الذي يتضمّن أكثرَ مِن مائة مليار خلية عصبية وكأنها آلة مذهلة قادرة على الإحساس، فيها ذاكرة قصيرة وطويلة الأمد، ناهيك عن قدرات مذهلة للتفكير والاستنتاج والتوقُّع ومُحاكاة المستقبل. يَعتبِر الدماغ شركة أو مؤسسة كبيرة معظم معلوماتها في اللّاوعي، والمدير العام لهذه المؤسسة غير مدرك بكل شيء يحصل في الشركة، والأحاسيس هي قرارات تحدث بشكل سريع وبصورة مستقلة، ولكن على مستوى أدنى؛ تُطالب المدير التنفيذي أن ينتبه بشكل مستمر، لكن هو الذي يتخذ  القرارات النهائية في مركز القيادة في قشرة الدماغ الأمامية وهي (Cortex cerebri). يقول العالِم في مقدمة كتابه “الذي يريد فهم لغز العقل ما عليه سوى أن ينظر إلى المرآة ويسأل ما وراء هذيْن العينيْن“، مما يدفعك للتساؤل عن هذه الأشياء التي تثير فينا قلَقاً، مثل: هل نمتلك روحا؟ ماذا سيحصل بعد الموت؟ من أنا؟ إلى أين أنتمي في هذا المخطط الكوني العظيم؟ كما يعبر عالم الأحياء توماس هنري هكسلي (1825- 1895) بقوله: ” إن السؤال الأهم للإنسانية من بين كل الأسئلة، والمشكلة الأعظم التي تقع خلف كل المشاكل هي تحديد مكان الإنسان في الطبيعة وعلاقته بالكون.” 

اهتمَّ ميتشيو طوال حياته بالعقل والدماغ، واليوم مع الآلات الحديثة وتقنية التصوير بالرّنين المغناطيسي، أضحى العلماء قادرين على قراءة الأفكار التي تجول بأدمغتنا، وكذاك القدرة على زرع قطعة صغيرة داخل دماغ المريض المصاب بالشلل الكامل وربطها بالكومبيوتر ليستطيع رؤية الإنترنيت وقراءة وكتابة الرسائل الإلكترونية، بل وأيضا التحكم بالكرسي المتحرك، وعلاوة على هذا اختراعات الذراع الميكانيكية وإدارة المنزل وعمل مهمات أخرى، مثل الإنسان الطبيعي. والعلماء يفكرون في أبعد من هذا عن طريق ربط الدماغ مباشرة بهيكل خارجي والتحكم فيه، مما سيؤدي إلى قدرة الشخص المصاب بالشلل الكلي على التحرك والعيش بشكل طبيعي.

هناك احتمالية قوية في المستقبل على تحميل الذكريات والخبرات على الكومبيوتر؛ مِثل فيلم The Matrix، وهي فقط مسألة وقت للتّمَكن من ذلك، هذا يعني القدرة على السفر والالتقاء بأشخاص جدد وخوض تجارب بذاكرة صناعية. اليوم استطاعوا تسجيل ذاكرة دماغ فئران وتنزيلها ثم إعادة تحميلها للفئران، يعني أنها مجرد سنوات قليلة لنرى نفس التجربة على البشر، ولا ننفي أن لها فوائد كثيرة كالصَّدَمات العاطفية والنفسية التي تحصل بعد الحوادث الأليمة، فقد يكون بالإمكان تحميل الذاكرة وحذف ما شئنا منها وإعادة تنزيلها على الدماغ.

لعلّ هذا النوع من التطور سيفتح بالتأكيد آفاقا كبيرة في علاج مرض الزهايمر، حيث يمكن تحميل ذكريات حتى ولو لم تكون حقيقية لكن بالطبع ستساعد المريض على التحسن. وأكثر من هذا، يمكن مشاركة ذكريات من خلال إنشاء شبكة للعقل تسمح بمشاركة المشاعر والذكريات بين الناس بإرسالها إلكترونيا، فهل تتخيلون أن أبناءنا في المستقبل سيعتبرون أن إرسال الصور والصوت والنصوص لبعضنا البعض بدون أية مشاعر حسية من خلال الإنترنت لَهُو أمر رجعي ومتخلف!! وهذا لم يعد خيالا علميا، بل أصبح قريب جدا أكثر من أي وقت مضى.

هذا التقدم بأفكاره المثيرة شدَّ انتباه السياسيين، فأصبح عِلم العقل مصدر تنافس بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم؛ فالرئيس السابق لأمريكا “أوباما” والاتحاد الأوروبي مَوَّلَا مشروعيْن مستقلين يختصان بالهندسة العكسية للدماغ، بهدف اكتشاف سر هذا الأخير ومساراته، ولغايةِ فهم منشأ الأمراض العقلية وإمكانية عمل نسخة من الدماغ، وهذا سيقود الجميع إلى سؤال: هل هذا البحث يمكن أن يغير مفهوم الخلود؟ هل سيندثر الجسد ويبقى الوعي إلى الأبد؟

والشيء الذي يثير الاستفهام هو شرح ميشيل لنظرية “HBDI” بقوله: “إذا نزعنا الجمجمة وكشفنا الدماغ ولامسنا الجزء الأيمن منه فإن الجهة اليسرى من الجسد تتحرك، والعكس ايضا، أما إذا قطعت الوصل بين شِقَّي الدماغ فيحدث شيء غريب، وهو ظهور شخصيتين مختلفتين وكل جهة من الدماغ تسيطر على الجزء الخاص بها من الجسم فيحدث صراع بينهما، وهناك حالات كان فيها شق من العقل ملحدا والشق الآخر مؤمنا”؛ لعلها أمور غريبة لكن حقيقية.

تقرؤون أيضاً على زوايا في قسم علوم

أجهزة الكمبيوتر أصبحت قادرة على تسجيل الإشارات الكهربائية في الدماغ وفك هذه الإشارات إلى لغة رقمية مفهومة، أي أنه صار مجالا للعقل للتفاعل مباشرة مع الكمبيوتر والتحكم بأي شيء حوله، وهذا يسمى (Brain computer interface). وكتاب “مستقبل العقل” تَحَدَّث عن هذه التقنية التي جعلت أفكارا نراها غربية تضع بصمتها على الواقع، كتسجيل الذكريات وقراءة الأفكار وتصوير الأحلام. حرِيٌّ بنا هنا ذكر أنواع الوعي البديلة التي جاءت في هذا الكتاب مثل: الأحلام، الوعي عند المصابين بالأمراض العقلية، الوعي عند الروبوت، والكائنات الفضائية… أيضا، هناك جزء مهم للذين لديهم قدرات عقلية خارقة، كالشخص الذي استطاع رسم منظر رآه لمرة واحد في الهيلوكوبتر بشكل دقيق، كأنه أخذ صورة في ذهنه واحتفظ بها إلى حين رسمها؛ ويحكى أيضا عن طفلين تعرضا لحادث وتلقيا ضربة في الدماغ وتحديدا على مستوى الفص الصدغي، بعدها أصبح الاثنان عبقريين في الرياضيات!! 

هؤلاء الناس لهم قدرة رهيبة في التذكر حيث بإمكانهم تذكر أحداث مرت عليها ثلاثون سنة بشكل دقيق، وهناك حالات تستطيع حفظ 15 ألف كتاب وإعادة قراءتها سطرا سطرا!! هناك نظرية علمية تقول “دائما كان الاعتقاد أن النسيان هي عملية طبيعية، نتعلم ثم تخفي الذاكرة معلوماتنا مع الوقت”، وهذه النظرية تحتمل الخطأ، أما في حالة هؤلاء الناس فهم نسوا كيفية النسيان!! هم فقط يتذكرون وعملية النسيان لديهم معطلة، فلا يوجد حذف للذاكرة لديهم..

صفوةُ القول ”إنّ طاقة العقل هي جوهر الحياة”، يؤكد “كاكو” أن علم الأعصاب الذي هو أحد أهم العلوم لدراسة الدماغ الإنساني ما زال بدائيا، يجهل أكثر مما يعلم، وهنا تطرح الفلسفة أسئلتها العميقة على العلم المتباهي بنشْوَته وانتصاراته، فعقل الإنسان ليس إشارات كهربائية فقط بل معجزةٌ مثل الكون العظيم الذي لم تدركه كل مراصد الإنسان، وكما يقول أحد العلماء عن الدماغ الإنساني: ”ما هذه التحفة المُحيِّرة.. إنه الشيء الأغرب الذي اكتشفناه في الكون”.

ومن هنا؛ فإن العلم واتساع مجالاته لا يقلص اندهاشنا بالعقل بل يزيد ذلك الاندهاش، ويجعل سؤالنا حول العقل ليس سؤال التحكم والسيطرة، ولكن أسئلة وجودية تحتك بالمطلق، فهذا الإعجاز العظيم في خلق العقل وراءَه إله قدير متعالٍ بديعٌ في خلقه، ولعل آخر جملة ختم بها عالم الفيزياء كاكو هي “أننا لا نزال أسياد مصائرنا”،وهي تلك الإرادة الطليقة التي منحها الله سبحانه وتعالى للإنسان في حمل أمانة التكليف، والتي لن يستطيع العلم مهما أوتِيَ أن ينزعها منه.

Exit mobile version