فُـرسان جبل بوحميد

#خاطرة عن ذكرياتِ طفولة شيّقة شقِيّة

من منكم لا يعرف “البْلاكة”؟ ربما هذا السؤال لا يجب طرحه على أبناء مدينة “الريش” بالجنوب الشرقي المغربي! مربّعٌ فولاذي ضخم على يمين قمة جبل “بوحميد” من أعلى قمم سلسلة جبال الأطلس الكبير (على ارتفاع حواليْ 2500 متر عن سطح البحر)، شامخةً كشيْخ حكيم مستلقٍ على وسائد التاريخ مستمْتِعاً بنمو وليده الصغير: “مدينة الرّيش”، كأنها عينه التي لا تنام لحراسة مدينته البسيطة المترامية على ضفاف نهر زيز..

من المؤكد أن كل واحد منا يحمل ذكريات خاصة مع هذا المكان.. ولحُزمة ذكريات الطفولة عبَقٌ خاصٌّ سواء نُحتت في ربوة مطلة على نهر صغير أو بين أعمدة عمارات نيويورك، لذلك اختلفت السياقات والأزمنة بل وحتى الأجيال، لكن بقيت رمزيتها منقوشة في ماضينا وطفولتنا حمولة ثقيلة راسخة.. خصوصا عندما يفصل الزمن بيننا وبين زوايا وأمكنة عِشْنا بين أحضانها وسطّرنا على دفاترها لحظات وجودية لا تنسى ولا تمحى ولا تسقط بالتقادم! 

مدينة صغيرة، متواضعة وبسيطة.. لا تتجاوز أماكنها عدد أصابع اليد: مدرسة، ملعب كرة قدم الأحياء، دار الشباب، جنبات النهر، وشارع يستهلك وقتك بين ذهاب وإياب إلى أن يحين موعد شيء جديد يكسر ذاك الروتين القاتل كعلامة مميزة لها..

قمم هذه الجبال، تنظر إلينا نظرة استفزاز متحدّية بنبرة حادة: “من يستطيع الوصول إليَّ ولمسي..؟ “

كنا نقبَل التحدي.. نقرر ونتفق على وضع خطة غزو مُحكمة…فالعدُوّ قويٌ جدّاً ونحن مجرد أطفال مجبرين على خوضُ المعركة ومحاولة الوصول إلى هذه النقطة؛ نتهيّأ مساء سبتٍ بالعُدّة والعتاد الذي كان بسيطاً للغاية (سمك معَلّب من النوع الرخيص، حبتا طماطم وبصل، بطاطس للشَّيِّ، قنينة ماء.. والكثير من الشجاعة والعزيمة والجَلَد..). نستيقظ باكرا صباح الأحد نعدّ أفراد الكتيبة ونتوجه مباشرة نحو أول العقبات.. عبور واد “زيز”، المهمة الأولى كانت دائما مرتبطة بمنسوب المياه الذي قد تجرف قوته أقدامنا الفَتِيّة أمتاراً على طول النهر لتضعك أمام اختيارين لا ثالث لهما: أن تكمل رحلتك مبللا أو ترجع المنزل مستسلما تجر أذيال الهزيمة وهذا ما لا نرضى به.. كنا نقيس خطواتنا الصغيرة ميليمترات بين الصخرة والأخرى وأكياس الرمل الموضوعة بعناية من طرف السكان الأصليين-اللاجئين في الجهة المقابلة والذين ندين لهم بالشكر الجزيل لتوفيرهم لنا بنية تحتية لوجستيكية ناجعة صالحة للاستخدام.. 

وبعد نجاحنا في تجنب حمّام صباحي بارد، وبعد أن تكون أقدامنا ابتلّتْ جزئيا، يقذفنا واد زيز للضفة الأخرى ضاحكا من حالنا مستهزئا بنا ومُستعرضاً ارتفاع الجبل الشاهق لَكَأَنَّه يتوعدنا بالمزيد من العقبات. نُدير ظهرنا له غير آبهين لإهانته، مُصرّين على استكمال المسير والبدء في طيّ صفحات التلال أمامنا واحدة تلو الأخرى نحو الهدف المنشود..

نلتقط أنفاسنا بسرعة، ونرفع الهمة أمام المسالك الملتوية تصاعديا أمامنا؛ نقرر خط أحد الطرق المحاكة بانسيابية قلّ نظيرها بفعل أثر السير المتكرر عليها من أقدام ودواب الرحل، طريق وعرة وأحجار حادة قد تمزق أحذيتنا الرياضية المهترئة بسرعة، ولن تقِيَك ألم الاحتكاك بها، وهنا ندرك جدوى النعل المكوكي المصنوع يدويا من إسكافي المدينة والمشهور ب”ميشلان” نسبة لشركة عالمية مشهورة بجودة صناعة إطارات عجلات السيارات والتي استفادت من متلاشياتها عبقرية محلية جعلت منها  حذاء “صندالة” لا منازع لها في أوقات الجد والمحن.. وحوّلتها لاحقا لإحدى صيحات الموضة الشبابية خصوصا هواة التخييم وصعود الجبال في المدارات السياحية للمنطقة.. ولِمَ لا! مـا دام “ثمنها قليل وأجرُها كبير” كما غَنَّيْنا جميعا ذات يوم في مديح الحذاء الرياضي البلاستيكي العجيب..

خطوة بخطوة، نطوي هضبة تلو أخرى وفجاً تلو الآخر إلى أن نقترب أكثر فأكثر للطريق الجيري الوعر، وهنا لابد من استراحة محارب لالتقاط الأنفاس بعد الجهد المبذول، والاستمتاع بالنظر من الأعلى للمدينة الصغيرة أمامنا كمُجسم كرتوني نموذجي لمدينة افتراضية.. كل شيء يبدو صغيرا وكل منا يبحث جاهدا عن منزله كالباحث عن إبرة في كومة قش.. وبعد هنيهة نصرخ واحدا تلو الأخر: “أوريكا”،”أوريكا”!

نستديرُ، بعد ذلك، صوب القمة لنبدأ الشوط الثاني من الصعود؛ طريق جيرية ملتوية كمنظر مَعْي غليظ لجسم تم تشريحه، ذات لون أبيض ناصع ووردي فاتن، كما أن بعض المنعرجات رصت حجارتها بدقة متناهية- علمنا لاحقا أن جزءا منها رصّته أيادي سجناء مقاومي الاستعمار الفرنسي والذين جيء بهم للقيام بهذا العمل الشاق نكاية وعقابا- نسير مستمتعين ومتشوقين لخط النهاية وكسب الرهان.. لكن فجأة، يوقفنا أحد أعضاء الكتيبة معلنا حالة طوارئ ووجوب التوقف بعد أن أمعن معيُه الغليظ في استعجاله.. قررنا السير قليلا وانتظاره حتى الانتهاء من فعلته الشنعاء التي جاءت في غير زمانها.. يلتحق بنا ونكمل الطريق، صادفنا قافلة من الرحل بلباسهم الرث وابتسامتهم العفوية، يقودون بغالهم المحملة بالمؤونة مترّجلين المنعرج للسيطرة على مسار قطيع أغنامهم، تبادلنا التحايا بخجل وكأنهم لاجئون بالمنطقة.. وأكملنا المسير.. 

جاهدنا التّعب إلى أن وصلنا “البلاكة” غير آبهين بالتعب وبعض الكدمات على أقدامنا متأملين جنبات “جبل بوحميد” وشعابه المصففة بأناقة ورصانة على يمين وشمال الموقع كتسريحة شعر شاب وسيم على موعد بحبيبته عشية ربيع مزهر..

تسلقنا جميعنا هذه القطعة الفولاذية المليئة بأسماء أشخاص لا حصر لها..  حاولنا بدورنا خط أسمائنا بقطعة حجر صغيرة ليكتب التاريخ أننا انتصرنا ومررنا من هنا ذات يوم حتى ننضاف إلى كتيبة “فرسان الجبل”.. كان انتصارا رمزيا كبيرا.. فكان الاحتفال عبارة عن وجبة سريعة التحضير وبطاطس مشوية على الطريقة التقليدية. بعد ذلك جاء وقت العودة والهبوط السلس لمضاعفة المتعة والاستمتاع بمسار المنعرجات الملونة بأقل مجهود..

لكن، وفي نفس مكان توقف أحد الفرسان اضطراريا، اكتشفنا شيئيْن مهمين؛ الأول أن رفيقنا فعل فعلته على قارعة الطريق الجبلي الصغير دون استحياء حيث مررنا ومرت قافلة الرحل، وكان الشيء الثاني أن هؤلاء الرحل أحاطوا وغَطَّوا ما وضعه الفارس المغوار بالأحجار حتى لا تؤذي أحدا..  أدهشنا الفعل ورد الفعل!! طأطأ الفاعل رأسه وانبرى جانبا، وَبّخه البعض على فعلته بينما سخر منه آخرون.. كان أولَ درس أخلاقي حقيقي نتلقاه جميعنا حول البيئة بعيدا عن فصول المدرسة أو صالونات الخمس نجوم المخملية التي تدَّعي الدفاع عنها، فمن المعروف عن الرحالة تشبثهم بالأرض وحبهم للطبيعة التي تحتضنهم..

قطعنا النهر مرتيْن مادام ماءُ وادِي زيز جاريا لا يتوقف صبيبه، أسرعنا الخطوات في اتجاه منازلنا للاستراحة وتناول بعض الطعام على أن نلتقي بعد ذلك لنروي أحداث المغامرة للمُتخَلّفين والمتغيِّبين، وذوي السوابق المتردّدين.

للتدوين والنشر على مدونة زوايا راسلونــا هنا

خالد وديرو

مدون و طالب إعلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *