قراءة في كتاب “شهرزاد ترحل إلى الغرب”

حَريـمٌ هنـا وحريم هنـاك

تواصل المرنيسي مشروعها لدراسة وتفكيك الحريم باعتباره ليْسَ “ظاهرة شرقية” فقط، بل إنسانية.. الغربيون ليسوا محصَّنين ضد الحريم، وللغربيّين حريمٌ ناعم تصفه المرنيسي “بالحريم اللّامرئي”.

يتجلى الحريم الشرقي في تحكم الرجل في التّقسيم المكاني : بين فضاء عام يحظُر على النساء التواجد فيه، وفضاء خاص ليس لجميع الرجال حق دخوله؛ وهو التقسيم الذي يعوِّل عليه الرجل الشرقي في ضبط العلاقات التراتُبية بين الجنسين، والتمرّد عليه وتجاوز الحدود بين مجالَـيْه، يعني قضاء على الحريم وعلى الذهنية المؤسِّسة له، وخلق نوع جديد من العلاقات بين الجنسين يتّسم بالتكافؤ والمساواة.

إن أغلب مظاهر الهيمنة الذكورية العربية ترتكز على المبدأ سالف الذكر: مبدأ التقسيم المكاني. ولنلاحِظ مثلا أن الحجاب الذي يعد أبرز إشكالية نِسْوية في الثقافة العربية الإسلامية يحمل أبعادًا مكانية من الناحية اللغوية.

في مقابل الحريم الشرقي، تضع مرنيسي الحريم الغربي وتقسّمه إلى مستويين: حريم متخيَّل لا وجود له إلا في أعمال المستشرقين ولوحات الفنانين ثم -مؤخرا- في أفلام هوليوود، تصوّر فيه النساء عاريات في وضعية استلقاء واسترخاء فيها من الاستسلام والخضوع ما يفضح استيهامات الرجل الغربي الجنسية. تتساءل فاطمة مرنيسي عن واقعية هذه الصورة، إذ لم تحضر النساء في الفنون الشرقية (المُنَمْنَمات الهندية والفارسية) بهذه السلبية، وإنما كن فارسات مدججات بالأسلحة، تنبض حركيتهن رغم سكون الصورة، وهنّ في الأدبيات العربية فاعلاتٌ سياسِياً طامحات إلى السلطة، ينتزعنَ حق التقرير السياسي من خلف أسوار الحريم… “كيف حوّلتهُنّ اللوحات الغربية إلى كائنات مفرطة في السلبية؟”، تطرح فاطمة السؤال ثم تشرع في محاولة الإجابة..

إن شهرزاد التي استحضرتها العروض المسرحية في أوروبا ووظفَتْها السينما الأمريكية كشخصية راقصة، هي في المِخيال العربي نموذج للمرأة المقاوِمَة للموت التي تسكُنها رغبة الاستمرار، وترفع التحدي مهما بلغ فيه الخطر. إنها امرأة موهوبة تجيد إدارة انفعالاتها والتغلب على خوفها في الأوقات التي لا يُجدي فيها الخوف، لم ترقص شهرزاد أبدا، بل شحذت قواها العقلية لتنسج من خيوط الخيال سِحراً دامَ ألفَ ليلة، كان الرّهان لدى شهرزاد أن تطفئ شهية القتل لدى رجُل دَمّرته الخيانة، بأن تقنعه بأن على الرجال أن يكفوا عن التعويل على طاعة النساء لهن، وتسرُد له عن عصيان النساء المستمر واستعصائهن على الإخضاع مما يوحي بإرادة المرأة المستقلة.

وعليه، بَدلًا من “العلاقة التعسّفية للحاكم بالمحكوم”، على العلاقة بين الجنسين أنْ تُبنى على نمط يستوعب حقيقة أن المرأة كائن فاعل ومتحرك قادر على مقاومة التسعف الممارس عليه وعلى خرق القواعد والتمرد على المنظومات التسلطية التي تلغي حريته. كثيرة هي الحكايات في ألف ليلة التي تماهي بين المرأة والطيور، أو تقرن بها فعل التحليق كرمزية دالة على نَشْد النساء للحرية.

تصوّر “ألف ليلة وليلة” الحريم كمصدر ألم للرجل والمرأة معا : هو للرجل مصدر قلق من أن تفشل الأسوار في تحصين شريكته، وهو للمرأة غُلّ ثقيل، في حين تصورها “الليالي العربية” في نسختها الغربية مصدرا للمتعة والإباحية حيث يستفيد الرجل من خدمات جنسية لامحدودة ويتمتع بسلطة وإرادة مطلقتين، وحيث ترفل النساء في أثوابهن الشفافة في قمة الرضا والاستكانة، لا همّ يشغلهنّ سوى إرضاء السيد، مُغْفِلةً أن الشرقيين يستعيدون ذكريات الحريم ببالغ الحرج والاستنكار، وأن الانتصار على الحريم عُدّ مكسبا تاريخيا -اجتماعيا وسياسيا- للشعوب الشرقية.

هناك حريم آخر يعيش فيه الغربيون، وهو حريم مَحَلّي بخلاف الحريم المستورَد من الشرق بعد تشويهه؛ يتلاءم هذا الحريم مع نمط الحياة العصرية ومع الأدوات التي توفرها الرأسمالية، وهو حريم يستمد وجوده من “تحكم الرجل في الزمن بدل المكان” حسب المرنيسي، ومن امتلاكه للصورة، عبر الترويج لنموذج الجمال الأبدي، ولإصدارات الموضة التي تتجدد كل عام وعبر وضعه لمقاييس الرشاقة المضبوطة، ولسمات الأنوثة الناعمة، وصرف رساميل ضخمة للاستثمار في صناعة الموضة ومواد الزينة، وجراحات التجميل، وضخ كل ذلك في الإعلانات الملأى بصور النساء حيث يُقَدم نموذج الجمال المثالي الذي ينبغي اتباعه.

إنه حريم لا بالمعنى المجازي، بل الحقيقي، وحريم بكل ما تعنيه الكلمة، سجن تعيش فيه المرأة موهومة بالحرية -حيث كل الفرص مشرعة أمامها-، تشعر فيه على الدوام بأن جسدها مادة للنظر، إنه عنف رمزي يستهدف وعي “المعنَّفة” ويتدخل في صياغة علاقته بالجسد عن طريق تكثيف حضوره والتركيز عليه كوسيلة لتحقيق الجاذبية -والجاذبية فقط-.
يتنامى لدى المرأة إحساس بالقلق : قلق ألا تكون مادة مشبعة للنظر ، وهو قلق مرهق يغرق المرأة في دوامة الاستهلاك (استجابة للإعلانات المسوقة للجمال) ويستنزف طاقاتها في السعي وراء النموذج المطلوب، ويجعلها تنسحب تلقائيا إذا فشلت في تحقيقه.. وطبعا لنا أن نرى انعكاسات ذلك على المستوى النفسي وحتى المهني والإنتاجي للمرأة..

هكذا، إذن، تفسّر فاطمة المرنيسي فارق الأرقام التي تكشف حضور المرأة الشرقية القوي (خلال السنوات التي سبقت الألفينات) في المجالات الأكاديمية والعلمية والتقنية (بمتوسط لا يقل غالبا عن 40% من طلبة الجامعات والأطر التقنية والعلمية) وفي البلدان الأكثر ذكورية كإيران والسعودية.. متفوقة بذلك على الحضور النسائي المسجَّل في البلدان الغربية.

يبدو أن خطر الحريم الشرقي، سواء التاريخي أو ذاك الذي يسكن خيال الغربيين، لا يبلغ في شيء خطر نظيرَه، على الأقل يولّد الحريم الأول وعياً بعبودية المرأة فيه ومقاومة من لدنها..
لقد ورّطَتنا العولمة في “حريمٍ كوْنِيّ” يصعب اعتلاءُ أسواره، فأسواره مخفية، وحتى إذا ما تبدّى لنا سور وأمكننا الفكاك اكتشفنا بعد زمن أننا قضينا قسطا لا يستهان به من حياتنا وسط أسوار أخرى مختبئة بين ضباب الإعلام وزخم الاستهلاك.

Exit mobile version