أحلام فلوريدا – الجزء الأول

قراءة نقدية في رائعة من روائع الأديبة زبيدة هرماس

تواصل الأديبة زبيدة هرماس تجربتها السردية بروايتها الجديدة “أحلام فلوريدا”. وذلك بعد رواياتها (كنز في تارودانت) و (حب على رصيف القرويين) و (عشاق الصحراء) و (الثورة الوردية) و (لا تحرقوا هذا الوطن)…


إذا كان الغلاف هو عنوان الرسالة وليس قبرا باردا توارى داخله ورقة أو مجموعة أوراق مليئة بالحروف المرتبكة وحرائق الشوق، فإنه تسمح لنا قراءة العتبة الأولى (لوحة الغلاف) بريشة الأديبة نفسها زبيدة هرماس، بتوقع مآلات الرواية “أحلام فلوريدا” حيث يظهر علم أمريكا المرصع بنجوم الولايات وقد غادرته نجمة ولاية فلوريدا نحو وجهة مجهولة.
بعد ذلك يأتي العنوان، فهو بوابة العبور التي تمنح القارئ فتنة كشف الكتاب وأغواره. فالعنوان يفتن متلقيه بالمعنى الذي يجعل القارئ ينساق وراء متاهات العنونة- هذه الترسيمة الغامضة التي لا تدرك أبعادها الدلالية إلا عند نهاية الكتاب، يعود إلينا عنوانه مستفزا ذاكرتنا المرجعية عن آثار الفتنة الأولى التي جعلتنا نتورط في استكشاف المعنى وراء ألفاظ الاسم/عتبة العنوان. من هنا يأتي اهتمامنا بالعنونة رافدا منهجيا من رؤيا التلقي نفسها، التي تحاول مقاربة المكتوب من مختلف مكوناته البنائية التي تشكله -بما في ذلك بنية العنوان الجمالية. ولأجل ذلك نهتم بجمالية العنوان وقراءته في ضوء “أفق انتظار القارئ” وجملة توقعاته التي يكون العنوان قد أحدثها في متلقيه. فعنوان “أحلام فلوريدا” يضفي خاصية الحلم على المكان لا شك يشد انتباه القارئ للغوص في ثنايا وأحداث الرواية.
من جهة أخرى تتميز رواية أحلام فلوريد ببعدها العالمي فهي تصوغ عوالمها الروائية من عوالم بعيدة عن المغرب على عكس ما عودتنا عليه زبيدة هرماس في بعض كتباتها السابقة، إن هذا المنحى السردي الذي يستمد حبكة تنطلق من تشخيص عقلية تفكير إحدى القوى الدولية التقليدية (أمريكا) هو نوع من التحول في مسار الكاتبة.
1. في مضمون الرواية
تبدأ الرواية بداية غريبة “سيدي الرئيس، سيدي الرئيس فلوريدا تسبح الآن في المحيط، شيء لا يصدق. فلوريدا اقتلعت من مكانها وأصبحت جزيرة سابحة لا قرار له”.
بهذه المادة الغرابية تنطلق فلوريدا سابحة في المحيط وينطلق السرد بخيال سابح، ففلوريدا قد تصل القارة الأفريقية، فتصبح قطعة حمراء، مصدر لطاقة عظيمة لا نهائية، وطن مسافر محمول على المحيط، ومادة دسمة للإعلام ولغز عالمي. فالرواية تسرد قصة مدينة فلوريدا التي تعرضت لكارثة مجهولة المصدر، حيث وجدت الولاية أجزاءها تسبح في البحر مبتعدة عن باقي الولايات الأمريكية، الشيء الذي جعل المجتمع الأمريكي يستنفر قواه بحثا عن السبب وراء هذه الكارثة، وتبدأ أحداث الرواية في التعقيد حينما اكتشف فريق جيولوجي كان يبحث في أعماق البحر عن سبب الفاجعة بقايا حضارة قديمة، وهذا ما جاء على لسان (توني): (فلوريدا اليوم تلهمنا وتهبنا تاريخا جديدا سيكلل حضارة شعبنا العظيم، أمريكا الرائعة تفاجئنا). سخرت أميركا كل قواها لاحتواء الكارثة الشيء الذي دفعها لسحب جنودها من المستعمرات لمساعدة السكان في ولاية فلوريدا، وهي المحطة التي شخصت فيها الرواية جزءا من واقع المستعمرات الأمريكية.
وفي خضم أحداث الرواية تكثر التأويلات والتفسيرات التي تسببت في الواقعة، فينتشر التفسير الخرافي الذي يروج لتدخل كائنات من كواكب أخرى فيما وقع لفلوريدا، وهذا التفسير وجد قبولا في صفوف المجتمع، وهنا تلمح الرواية إلى استعداد البنية الذهنية العميقة للإنسان الأمريكي في تصديق الخرافة رغم ما يظهر من تقدم علمي وتكنولوجي.
وبينما كان سكان الولايات الأخرى يصوبون نظرهم تجاه فلوريدا وهي تسبح في اتجاه الشمس، كان سكان فلوريدا قد تجاوزوا صدمة البداية فبدأوا في خلق مجتمع مستقل بقضاياه الاجتماعية والسياسية والثقافية.
بعد هذه الإطلالة السريعة في عالم الرواية يبق السؤال المهم هو ما هي عدة القراءة التي تسمح بتفسير سليم لأحلام فلوريدا؟ هناك عدة آليات للقراءة منها:
قراءة الشخصيات: رئيس أمريكا وابنته ومستشاروه وخبراؤه وعلماؤه الجيولوجيون والإعلاميون والأطباء ورئيس السنغال ومساعدوه وأهل جزيرة غوري، الرابط الذي يجمع هذه الشخصيات الواردة بشكل ملحمي أنها تقف مصدومة أمام هول التحولات: ابحار فلوريدا نحو السنغال، تحرك كوبا نحو الولايات المتحدة، الوباء المحدق بالمواطنين.
قراءة الأحداث: تبدأ بانفصال ولاية فلوريدا عن أمريكا وتحولها نحو وجهة مجهولة، ثم تتناسل التحليلات والمحاولات لفهم مبررات هذا التحول وعواقبه.
2. القضايا الواردة في الرواية
تصور لنا الرواية مجموعة من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية حول المجتمع الأمريكي وطرق تفكيره وكل ما يدور فيه، بل يمكن القول إنها رواية تشخص لنا المجتمع الأمريكي، ومن بين أهم القضايا الواردة في ثنايا الرواية:
قضية العنصرية التي لطالما شكلت إحدى أهم الطبوهات التي تنسف كل مقولات التقدم واحترام حقوق الإنسان في الثقافة الغربية (أو ربما هزة أرضية تكتونية جلدت جيولوجيا المنطقة جلدا كما فعل بالعبيد السود في فلوريدا طيلة قرون خلت).
كما تعكس لنا الرواية جزءا من فلسفة العصر العبثية، التي بدأت تنزل الإنسان منزلة الأشياء، خاصة في تعاطي العالم مع مأساة بعض الشعوب، (العالم ألف أن يشاهد الدمار على لوحات الألعاب الإلكترونية كما يراها تماما في أية منكوبة في العالم). وهنا أيضا تشير الرواية إلى صحافي مهووس بتصوير إنسان يحتضر وفي حاجة للمساعدة للحصول على جوائز صحفية عوض مساعدته لإنقاذ حياته، (أيها الصحفيون الأوغاد توقفوا توقفوا عن التصوير واصطياد اللقطات، أنقذوا الأنفاس الأخيرة، مازال هناك زفير وشهيق)، فالرواية تعكس هنا فلسفة العصر التي بدأت تستثمر حتى في الكوارث من أجل تحقيق الربح المادي، وتقتبس الرواية بعض الانعكاسات السلبية للإعلام في توجيه الرأي العام، (أجل لقد تعودت على التفكير في طرق توجيه المستمعين والقراء والمشاهدين كل حين).
من جهة أخرى تشكل الرواية صدمة للإنسان الحديث، فرغم ما بلغته البشرية من قوة في العدة والعتاد في مساره التطوري السريع، إلا أنه ما يزال ضعيف أمام قوة الطبيعة، وهنا تقدم الرواية مطارحة فلسفية عميقة للتصورات التي قالت بمقولة (موت الإله) و (الإنسان الخارق) الذي يمكنه أن يرود قوى الطبيعة.
وكانت الرواية مناسبة لطرح أسئلة عميقة وفرضيات تبدو غريبة لكنها أمام الزحف الالكتروني أصبحت ممكنة (لأول مرة أرى مظاهرات بهذا الزخم من غير أن تكون هناك مطالب محددة) هذه الأسئلة والفرضيات المبثوثة في ثنايا السرد هي مقدمة لنقد هادئ وذكي لواقعنا التكنلوجي العالمي: (الآلات التواصلية لم تعد تنقل الأخبار فقط، بل المشاعر والأحاسيس)، وفيها رسائل سلام حكيمة تتجلى في أن الخوف لا يواجه بالتخويف، وأن القمع يجب أن يكون بالقنابل المسيلة للسعادة فلربما تكون أجدى من العنف المولد للعنف في عالم أعمى ومريض ومغيب. (نحن لغز في هذا الكون، نعيش سؤلا ونتنفس جوابه).
وبالعودة للخصوصية الأمريكية -مدار حديث الرواية- نجد الروائية تنفد إلى أعماق التفكير الأمريكي خاصة في بعده السياسي لتصور لنا بعض مظاهر السياسة الأمريكية في تعطيها من القضايا المحلية والعالمية (أمريكا دولة لغز لا تحب الإجابة عن مثل هذه الأسئلة) كما تعري لنا الرواية بعض الثيمات البراقة في البنية المفاهيمية الغربية مثل مفهوم الحرية، التي تعتبر سيف ذو حدين في البيئة الأمريكية، (إنها ممنوعات كثيرة بالرغم من أن تمثال الحرية يرفع تلك الصخرة المنحوتة في يده قائلا من بعيد: أنت في دولة الحرية)، فالحرية حسب منطوق الرواية أصبحت عملة تباع وتشترى، فالناس يجمعون المال والحرية، وكلاهما يسلب الآخر بريقه واشتياقه، خمسة دقائق من الحرية لها ثمن، أما تلك الحرية التي ولدت وهي معك فهي مجانا، ولا مجال للمجانية الآن تشتري هواء أمريكا بعد اجتيازك للحدود، فتكتشف أن عدد الشهقات والزفرات بعدد الدولارات التي تنفقه.
بالإضافة إلى أن الرواية تغوص في أعماق السياسة الأمريكية الخارجة في تعاطيها مع شعوب العالم خاصة في شقها العسكري (تتدفق أنهار الدماء هنا وهناك ليعيش السلام). في المقابل تعكس الرواية تشبث الإنسان في المستعمرات الأمريكية بأرضه رغم العدوان الأمريكي فعلى لسان محمود الشيخ العراقي ورد، (أنا اليوم هنا إلى الأبد)، هذا في الوقت الذي اكتسب النظام الأمريكي قدرة خارقة على تبرير كل اعتداءاته وتحويل كل الوقائع لصالحه.

يتبع…

بنيونس عليوي

طالب باحث في اللسانيات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *