عام قبل جزيرة كوفيد 19

تشبيهات واستعارات من زمان الكورونا

إن العالم لا يعرف من أنت، فأنت بالنسبة إليه مثلك مثل العديد من الأوهام الموجودة في ذاكرته، لكنه يعرف أنه تم هناك شيء عليه أن ينقذه حتى لا يبعثره فيروس حاد أصاب حاسوبه، ولهذا فلم يتردد ولا مرة بأن يواجه تلك وذلك، ليس مخافة منك ولكن خشية أن يدمر ذلك الوباء الغير مرئي كل ما بناه في جزيرته الزرقاء عاما قبل كوفيد 19، حيث لايليق بصندوق العجائب أن يهلك مصير قريته الصغيرة هذه.

ولأنني كنت أدرك حينها أن رحيل البشرية في أواخر تسعة عشر وألفين، وبالضبط في فصل الشتاء، لا محالة إلى جزيرة “فيسبوك “، حيث كان لعامة الناس خيار الهجرة، جوع الخطابة، وفن التفاهة، حتى ولو كان ذلك على حساب الآخرين لأن سكان الجزيرة كان همهم الوحيد هو أن يشاركوا كل ما لديهم بدافع الإنسانية الرثة والرياء المقيت على فضاء الفيسبوك ومقاهي التويتر وملاهي الانستغرام ونادي سناب شات؛ لم تكن سوى قناع انزاح له الناس نزوح أهل يثرب في عام تسعة وألفين.
ذاك النزوح الذي بنى فيه كل رائد فكرته ولغته وأفلامه وحياته التي أسرت قلوب البعض وكشفت البعض الآخر، فهناك كتب لنا كل فلاسفة القرن الحادي والعشرين، وخاطبتنا أمة السفسطائيين، وعبرنا كل الجسور وسافرنا في ذواتنا وتمنينا الكثير والكثير.

كتبنا الأمنيات في الأفراح، وبكينا في الأحزان على الأحبة والأعزاء الذين عبروا إلى حيث اللانحن، كان كافيا أن نقطن نفس الأزقة والشوارع الرئيسية لنتفقد أخبارهم على حوائطهم، كانت هذه الجزيرة هي السبيل الوحيد الذي جمعنا مرة بأصدقاء الطفولة الذين رحلوا عنا بدون سابق إنذار، كان كل شي يشبه قولة جدتي تلك “حبل الحياة قصير”.
كان سوقا يشبه الأسواق الموسمية، تلتقي فيه بأصناف الباعة والزبناء كل حسب ذوقه وبضاعته، كلهم يتعاملون بالعملة التي يجدون فيها ملذاتهم؛ يمكنك أن تلتقي بعالم العلوم، بالرقاة الشرعيين، والباحثين والأساتذة، والأطباء وحتى الشعراء…. فهناك كسرنا قيود الطابوهات الممكنة وحررنا عقائدنا، وكانت الحقوق والحريات الفردية حوارات أحاديثنا… كانت ساحة عراك، ولكل زائر معركته.

كل فضائحنا بل ونزالات الفنانين وابتزاز المراهقين وعقوق الوالدين، صارت حديث المتابعين وسط جزيرة أخرى كتب لنا فيها أن نرمم مشاريعنا ونهزم صوابنا أمام صداقات لم نكن في حاجة إلى وقت طويل لبنائها، حيث كان يكفي أن تقبل مئات العروض في غضون ثوان قصيرة، حتى تتقاسم أسرارك وألمك على شيفرة صفحتك مع 5000 صديق من جزر مختلفة، كلكم لديه حق البقاء أو الرحيل. ولهذا، فأنت مطالب أن تحبه سواء كان مجنونا أو لصا أو مجرما، لا يهم، المهم أنه بات من الممكن أن تشهد له ببطولته يوما وأن تتضامن معه.

هذه الجزيرة كانت شاهدنا على مدى عشرين سنة، منذ هجرتنا إليها بات كل شيء ممكنا حتى المستحيل منها، فكان أول جدار كسرنا فيه حاجز الموت منددين ب”الكرامة، العدالة، الديمقراطية“.
هناك حيث تمكن الجميع أن يحظى بكرسي شاغر ” مؤثرون، مناضلون، متنمرون، ….إلخ”؛ وكأن حياتنا لم تعد كما ذاكرتنا التي عانت بسبب أو بدونه زمانا طويلا لتنال لقبا أو شهرة، فاكتفوا ب”شهيد” أو “زعيم”.
كان يكفي أن تقول “أنا هنا إذن أنا مشهور” وذلك اعتمادا على عدد المشاهدات والجيمات؛ لا تشغل بالك بعدد الإنجازات، يكفيك أن تأخذ صورة مع صابونك المفضل وحقيبتك الشقراء وأن تخاصم صديقك على أنه وضع جيم زرقاء بدل من تلك الحمراء المغرية.

لكن مع توالي السنين لم يعد الشعر والقصة والسياسيون همنا الوحيد، بل صارت لنا مجموعتنا، بيتنا وصورنا ومستقبلنا، تخلينا عن الفرنكوفونيين البلداء، وصار لنا عيدنا بالأمازيغية، فبات همنا الشاغل أن نسخر بأقل تكلفة وأن نتاقسم أطباقنا المختلفة من كل الضواحي على حدائق الجزيرة، وأن يكون انتقاد بعضنا تحت ذريعة أن الأذواق تناقش، والتضامن مع المعتقلين الاجتماعيين والسياسيين ولم لا حتى الفوضويين، ومناصرة الشعوب الشقيقة، ورفع شارة النصر لمنتخباتنا العربية في كأس العالم والتهريج والتنمر على مشجعي الأندية الأوروبية… كان يكفي فقط أن تكتب حبيبي مدريدي وأنت ليه برشلوني.
إلى أن جاء ذلك اليوم الذي لم يجرؤ أي منا أن يطل على سور العالم العظيم وأن يتخذ روما طريقه الأولى وإسبانيا وجهته السياحية، وفرنسا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأمريكا… قدواته العلمية، بل أصبحت نكتنا حقيقة يومية نترقبها كل مساء على الساعة السادسة مساء، نهرب من أخبارها وتقاريرها ومكالماتها ورسائلها مخافة أن تفقدنا عزيزا، لكننا سخرنا وكتبنا عن كل نواقصنا واكتشفنا عيوب بعضنا، صار الجميع يحلل ويتوقع لزمان آخر غير زماننا، فجريمتنا كانت أنه علينا ألا ننشر الغسيل فوق سطح الجزيرة، والمكوث في البيت إلى إشعار لاحق.

بوتشكيل خديجة

صحافية وطالبة باحثة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *