سواق النغم

قصة واقعية

تتساءل الشاعرة بشاير الشيباني “إلى أين تأخذ الموسيقى؟”
بالطبع إلى المزيد من الكتابة والعزلة

إنها المرة الأولى التي أخاف فيها أن لا يكون قلمي موفقا في وصفه لواقعة تستحـق أن تروى، خاصة وأنها قصة أروع ذكرياتي لسنة الألفين وتسعة عشر. هو حدث ديسمبري سيظل خالدا في الذاكرة ما حييت، وحتى يبقى خالداً من بعدي قررت أن أدونه فوحدها الكتابة من تحقق لنا الخلود، أو لعلي أود أن أعبر لبطلنا عن امتناني له، رجل بشخصية هادئة ومرحة قل نظيرها .. علاوة على أن الظروف الكورونية تخدمني من جانب آخر؛ إذ لا يخفى على أحد كيف أن هذه الجائحة حركت فينا الحنين لأمور بسيطة لم نكن نعيرها أدنى اهتمام مع أنها ذات قيمة مضافة خالصة … وأنا أيضا مثلكم، نبشت في ذاكرتي بحثا عن حدث يمنحني طاقة مختلفة، فلم أجد في حوزتي ما هو أفضل من هذه القصة.

استيقظت صباح ذلك اليوم مبتهجة وسعيدة تلك السعادة المفرطة، وكأن شخصا ما قضى ليلة في غرفتي يحقنني بجرعات من “السيروتونين”-هرمون السعادة– وما أعظم تلك الأوقات التي نكون فيها سعداء بدون سبب وجيه.
انتهيت من طقوسي الصباحية وغادرت المنزل مسرعة، أوقفت سيارة أجرة صغيرة وكنت حينها أضع سماعتي الهاتف وأدندن مع أنغام أغنية للراحل”محمد الحيّاني”، وأمة ربها واحدة من أولئك الذين ينسجمون مع جو أغنية ما غيرعابئين بالعالم الخارجي، يغنون بصوت عال ويقومون بحركات تشبه رقصة الباليه تفاعلا منهم مع أجمل مقاطعها.

صعدت المقعد الخلفي وأخبرت السائق عن وجهتي ثم عدت إلى عالمي، وإذا به يستفتح حديثه معي -بعد أن لوح بيديه ليثير انتباهي- قائلا: “يا بنيتي! يبدو أنك سعيدة بانتصار الحلال بعد قصة حب عنيفة “، فأجبته مستغربة كلامه: “حلال؟ قصة حب عنيفة؟ “، فرد علي مبتسما: “وقتاش تغني يا قلبي إذا ما غنيتي اليوم.. أغنية العرسان الفرحين بحفل زفافهم، وقد خمنت أنك تعيشين فترة الاستعدادات لدخول القفص الذهبي..”، فأجبته ضاحكة: “صحيح، تستطيع هذه الأغنية أن تأخذك إلى تلك الأجواء وأن تمنحك ذلك الإحساس وكأنك فعلا عروس ستزف بعد ساعات معدودة إلى حبيبها.. ولكني لست كذلك… لا زال بيني وبين الحب أبحر وجبال”.

عقد حاجبيه قليلا وقال”ماذا عن الملحون والطرب الأندلسي؟ كوني صريحة وأخبريني أنه اللون المفضل لمن يحبون العيش على الأطلال فقط .. قولي لي أنها موسيقى مالك الحزين؛ كلمات وألحان جميلة ولكنها تنزف… قولي لي أن هذا اللون الغنائي يليق بمن هم أعمارهم تعدت الخمسين!!”.
استفزني نوعا ما، فأجبته بدون تفكير: “أحفظ جل تلك الأغاني الأندلسية كما تحفظ أنت شوارع ومعالم هذه المدينة العزيزة، قد تغفل أنت شارعا أو حيّا بينما لا يفوتني أي مقطع من تلك الموشحات والمقطوعات الموسيقية الضاربة في التاريخ”.
تريث قليلا، وكأنني بدأت أفهم قصده؛ كان يريد مني ان أملأ بفطنتي ما عجز هو عن ملئه… فأكملت: “نحن العاشقات، الوالعات والناطقات بكل ما هو ملحون،غرناطي، شقاري -نسبة إلى الفنان الكبير الراحل عبد الصادق اشقارة- نخبر رجالنا بأننا نرفض تدوير العيون ولفة الرقاب بغنائنا “حبك القمار بكمالوا اها ،بكمالوا أهااا أشداك للنجوم اذا مالـوا …”، أما إذا أردنا التعبير عن مدى اشتياقنا لهم فنردد على مستوى عالٍ ومتناسب من الحياء والجرأة “باغي نلقاك غير سويعة نتسلا معاك…نتسلا معااااك نسمع لغاك…. نسمع الغاك..“، أما إذا كان الأمر ذا علاقة بالاعتراف لهم أن حبهم متفرد وأن لا صوت يعلو على صوت دقات قلوبنا باسم حبهم فإننا نردد بثقة وامتنان ” ما كنت أدري ما الحب لولاكم،علمتموني من طيب معناكم ،انتم في قلبي وذكركم في فمي”.

علّق سائقنا الغريب قائلاً: “عرض جميل..اممم” وراح سائلا من جديد: “ماذا عن المنسيين،عن اشتباك الموسيقي والسياسة؟ ماذا عن جراح هذا الوطن؟” وبعد زفرات ملكومة بدأ يغني: “مهمومـــــة يـــا خيــي مهمــــومـــة مهمومـــــة هـاذ الـدنـيـا مهمــــومـــة فيهــا النفــوس ولات مضيـــومــــــــة ولـــــى بنــــادم عبــــاد الــلُّومـَــــــــة …المسكين ف همومه ساير يْلاَلــِـــــــي عايــم ف لفقايــص عومـة محمومـــة شـــي مفتــون بمالــه سايــر يلالـــــي” صمت لبضع ثوان وعاد ليغني “خليلي علاش تعاديني و تهجرني و تخلي لي رسامي خالية …رسامي ,خالية هاذيك رسامي غابة و غدير و شعبة و حيوط باقة مخربة هاذيك رسامي رسامي خالية هاذيك رسامي..”. كان غنائه هذه المرة حزينا، ذلك الحزن الجليل والعزيز. سكت مرة أخرى ثم عاد ليغني “لله يا الشمعة سالتك ردي لي سآلي وش بيك فالليالي تبكي مدى انت اشعيلا علاش يا الشمعة تبكي ما طالت الليالي وش بيك يالي تتهيء لبكا فكل ليالي وعلاش كتباتي طول الديجان كتلالي وش بيك يالي وليتي من دا البكا عليلا علاش كتساهر داجك ما سهرو نجالي وش بيك يا لي ما رينا لك فلبكا مثيلا وعلاش باكيا مدالك للباكي والسالي..”

هذه المرة شاركته الغناء والتطبيل أيضا. توقف مجددا عن الغناء وكأنه سيترحم الزمان ليتوقف عند محطة ما في حياته لا يريد تذكرها.. عاد من صمته ليقول: “في فترة الستينات والسبعينات، برز مرسيل خليفة في لبنان، والشيخ إمام والنجم أحمد فؤاد في مصر.. وهنا في المغرب كانت مجموعة ناس الغيوان هي حنجرة الشعب وصرخته، ومن بعدها ظهرت مجموعة لمشاهب وجيل جيلالة… لقد فهمت الحياة واستوعبت الكثير من الأمور وخبرت الدنيا بفضل أنغامهم. موسيقانا يا بنيتي أغلى ما نملك في ثقافتنا، هي لغز لا يفهمه إلا من هو مغربي. قد يعشقها الغربي والمشرقي، ولكنها لن تبادلهم نفس المحبة. هي تعشق لسانها المغربي أو لنقل المغاربي أيضا.. لست رجلا متعصبا لديني ولا لعرقي ولا لجنسي، ولكن لي نزعة قوية لموسيقانا المغربية.. أعشقها بملحونها بعيطتها ورايها الوجدي، وجوها الكناوي والعيساوي، وألحانها الجبلية وغيطتها العجيبة …

شد انتباهي وكل حواسي نحو كلماته، فتابع السواق قائلا: “لكل شكل غنائي حكاية ورواية، فلكور عجيب لا مثيل له في كل بقاع العالم… أنغام متفرقة وتوزيع مضبوط، وكل حركة بمقدار.. أتعرفين شعبا له تصفيقة اليدين على الطريقة المراكشية؟ إنها آلة موسيقية مغربية الصنع. لو كنت مسؤولا في وزارة الثقافة أو التعليم، لوضعت موسيقانا مادة ومقررا إجباريا من سلك الحضانة حتى الجامعة. أجدها شاملة مشمولة، كافية ومكتفية. سعيد أنك فخورة بها، احتضنيها قدر استطاعتك … هي هويتنا ولا هوية لنا و نحن تنتفس موسيقى لا تمثلنا.. ذلك يشبه نشازا في الخواء… أما الأمازيغ فإني أغبطهم ورب هذه السموات والأرض… أجد فنّهم متمردا…فعلا، هذا ما يقال «إذعان ورضا عندما تفرض الموسيقى سلطتها».

لم يترك لي مجالا للتعليق، وأكمل: “لكنني أخاف علي هذا الموروث من الاندثار.. لقد تعمقت جذور هذا الجيل الجديد في الشرق والغرب، وحتي في أفضل الحالات ما يستمعون له محليا لا أعترف بأنه منتوج مغربي”. فقلت له “لا تخف يا عمي، موسيقانا في الحفظ والصون… لا تخلو خزانة ملابسنا من أزياء مغربية من قفطان وجلباب وقندورة وجبادور، فمهما أبدعت دور الأزياء في روما وباريس، فإننا لا نتحدث عن أنوثة نسائنا وأناقة رجالنا إلا بارتداء ما هو تقليدي مغربي خالص… في المطبخ أيضا.. لا تتفاخر المرأة المغربية بإعدادها البيتزا أو الشاورما أو ما شابه، وحده إتقان طبخ الطاجين والكسكس والحريرة والبسطيلة ما نعترف به كمعيار لقياس درجة “الحداكة” في كل بيت مغربي… وكذلك هو الأمر في الموسيقي، الرغبة في الرقص وطرد المكنون لا يتم إلا بواسطة لحن مغربي ونغمات وكلمات مغربية.. وحدها أغانينا من توقظ فينا الرغبة في أن نكون أحرارا. موسيقنا تحرك كل ما هو جامد منذ عقود وعقود”. ضحك قليلا وقال: “يستسلم الجميع أمامها، المثقف والجاهل، الشاب والشيباني، الفقير والغني، المرأة والرجل، المجنون والعاقل… موسيقنا عادلة يا بنيتي !”.

أردف بعض لحظات صمت قصيرة: “لقد وصلنا ،بعد أن سلكت متعمدا طريقا أطول حتى يطول حوارنا الموسيقي الممتع”.فأجبت: “وأنا كذلك يا عمي، استمعت بذلك وتمنيت لو كان بامكاننا إضافة لفة أخرى بدون وجهة، تفضل يا عمي بركة رزقك”. وقبل ان أعيد النقود إلى حقيبتي، وجدته قد قام بخصم نصف المبلغ المشار إليه في شاشة العداد، فقلت له مازحة: “في الموسيقي والفلسفة ممتاز ولكن في الحساب لا أظن”. فقال: “لقد تشاركنا أطراف الحديث والغناء، وتقاسمنا الوجع والاستمتاع بهما، فمن العدل أيضا أن نتقاسم تكلفة ذلك… وفقك الله يا بنيتي وبارك الله في يومك”.
لم أدري ماذا علي أن أقول، فأدلفت: “شكرا يا عمي على كرمك وروحك الجميلة.. هذا الحوار كان ذا قيمة وعبرة ستبقيان في ذاكرتي أبد الدهر”. لوحت مودعة إياه وأقفلت الباب ورائي..

غاردت سيارته، ولكن طريقته في الحديث عن الموسيقي لم تغادرني… ما قصة هذا الرجل؟ ما قصة هذا الولع بموسيقانا بكل أصنافها؟ ما قصة أغنية خليلي معه؟ لماذا غناها بتلك الطريقة؟ لم أكف يومها عن طرح الأسئلة.. لقد ترك أثره جليا… أحسست وكأن ذكرياته مع الموسيقي المغربية هي التي ليس له من متاع الدنيا غيرها، وأن الموسيقي بالنسبة له هي المنطق، هي الوطن وهي العشق الحقيقي، وأنه يرى الناس و العالم من خلال الموسيقي خاصة المغربية منها. أتمنى ان لا يصيبه أي مكروه وأن يبارك الله في عمره ويبارك في ثباته وبشاشته، في غرابته وذوقه الموسيقي، وسلاسة طريقته في الحديث.

Exit mobile version