كورونا وسؤال الدرس

أكثر من مجرد جائحة، درس للحياة

أكيد بأن الإجابة بنوع من اليقينية بصدد هذا السؤال لا تستقيم والحالة، لأنه علينا أن نعي جيدا بأن القيم الاجتماعية وروابطها هي نتاج تاريخي لعناصر متداخلة، ولكن عموما في لحظات الخطر، وفي لحظات الأزمات، تختبر هذه القيم، تختبر هذه التماسكات الاجتماعية من حيث فعاليتها ومن حيث هشاشتها في بعض الأحيان.
ما نعيشه اليوم هو اختبار… اختبار اليقينيات الصادقة، اختبار الاعتقادات الراسخة، اختبار حتى لمقولات ولمفاهيم معينة، ويكفي أن نعرج عن بعض من الكتابات والقراءات التي انتجت حول هذه الجائحة، وسنلاحظ بأنها بدت مسكونة بالقلق، مسكونة بالسؤال، لا نجد فيها طعم الإجابة أو ممكنات الإجابة بل نجد فيها أسئلة وتساؤلات؛ لهذا فان هذه اللحظات الراهنة التي نعيشها اليوم تفتحنا على مجموعة من الأشياء.

ولنعد إلى كتابات الأوبئة للمرحوم ” البزاز” في تاريخ المغرب، سوف نلاحظ أن هذه الأوبئة كانت تخرج دائما من الناس أجمل ما فيهم وأحقر ما فيهم في نفس الآن، بمعنى أنها تكشف عن معدنهم الطيب، تكشف عن لبنات التضامن وما إلى ذلك، ولكن في نفس الوقت قد تكشف عن أشياء سلبية. أي أنه دائما في هذه اللحظات المفتوحة على الخطر والتوتر يمكن أن نجد كل شيء.
ولكن عموما ما يثلج الصدر هو أنه تلوح فينا هذه اللحظة مجموعة من إمكانات التضامن، مجموعة من إمكانات التعاضد والتساند الوظيفي. ولعل أهم ما قدمته كورونا للناس عن طريق الحجر الصحي هو أنها أعادتهم إلى ذواتهم، أعادتهم إلى الخلية الأساسية وهي خلية الأسرة التي تعرضت في أغلب الأحيان للكثير من الاختزال والتبخيس، وتحولت إلى مؤسسة بيولوجية فقط، لذا فاليوم يفترض أن تستعيد هذه الأسر وظيفتها الأساسية التي نشأت من أجلها.

أكيد أن هناك دروسا بالجملة من المفروض أن نستفيد منها؛ دروس تهم الأنا وتهم الآخر وتهم هذا الكون وهذا العالم الذي ننتمي إليه جميعا. ولربما أهم درس تقدمه لنا كورونا هو أنه علينا أن نعيد حساباتنا، علينا أن نعيد قراءة الواقع بمنظور جديد، علينا أن نتحرر من وهم الاستهلاك، علينا أن نتحرر من وهم الرأسمالية المتوحشة. علينا أن نتحرر من الحداثة المفرطة ومن العولمة التعيسة، وأن نعتبر بأن العودة إلى المحلي وإلى الأنا وإلى الهوية يمكن أن تكون المدخل الرئيسي لصناعة التغيير…. دروس متعددة ربما على الحكومات أن تعيها جيدا خصوصا في دول الجنوب؛ وهو أن الاستثمار في المحلي والاستثمار في الانسان هو خير سبيل للعبور الآمن نحو المستقبل.
درس آخر مهم جدا علينا أن ننتبه إليه، ودائما أردده باستمرار وهو أن العلم هو مفتاح الفرج؛ علينا أن ننتصر للعلم وللخطاب العلمي، علينا أن ننتصر للتعليم، علينا أن ننتصر للصحة، علينا أن ننتصر للأمن الغذائي… هذه هي الدروس الأساسية التي يتوجب أن نستخلصها. أكيد أنه بسبب سياسات التقويم الهيكلي تعرضت القطاعات الاجتماعية للكثير من التبخيس وللكثير من الإقصاء والتهميش والتحوير، اليوم عندما نتأمل ما يحدث في سياق كورونا سوف نجد بأن هذه الفضاءات وهذه المؤسسات هي التي توجد في الصف الأمامي، لا يمكن أن نعبر نحو الأمام لا يمكن أن نتقدم، لا يمكن أن نربح الرهان بدون الاستثمار في الاجتماعي لأنه هو المدخل والمعبر نحو عدالة اجتماعية ونحو عدالة صحية ونحو أمان اجتماعي.
على مستوى آخر وهو هذا العالم الغربي الذي نفتتن به، هذا العالم الآخر الذي نعتبره الفردوس المفقود ونعتبره في كثير من الأحيان مفارقا ومتقدما. كورونا تقول لنا اليوم بأنه ليست هناك من دول متقدمة أو متخلفة، التقدم والتخلف هو مقولة إيديولوجيا لا غير، وأن الأساس هو كيف نستطيع أن نبني الإنسان. اليوم يبدو بأن هذا العالم قد تحول إلى محجر صحي كبير وإلى سجن كبير، هذا العدو اللامرئي، المجهري، قد أربك حسابات العالم، مطارات مغلقة، مساجد مغلقة، محلات مغلقة، أي فضاء من الفضاءات فرض عليها الإغلاق. إذا علينا أن نعيد حساباتنا، علينا أن ننتبه بأن الخصام الذي قام به الإنسان بينه وبين الطبيعة ربما عليه أن يستلهم الدرس منه، لذلك إذا كانت كورونا قد عصفت بكثير من الفهوم إذا كانت قد خلخلت وأربكت الكثير من الحسابات فالمستقبل يفترض أن نفكر بشكل جيد “فيما بعد كرونا”.
اليوم ربما كما أقول دائما نعيش سياق المزيد؛ نبحث دائما نبحث عن أجمل الهواتف النقالة، نبحث عن الصيحة الأخيرة في الموضة، عن العطر الفلاني عن الأشياء الفلانية الغالية وندخل في وهمي الإنفاق والتضخم القيمي والتضخم الهوياتي بحثا عن تفوقات ربما لا تجد لنفسها أي معنى. هذا السياق، سياق المزيد الذي أهدانا المزيد من التفكك، أهدانا المزيد من التراكم، المزيد من السيول بتعبير سيمون دي بوفوار، أهدانا المزيد من المزيد، كيف سنتعامل معه اليوم، هل اليوم ما زالت رأسمالية الكوارث تلقي وتغري بالاتباع؟ أي هل مازال الخطاب الاستهلاكي يغري أكثر؟ هل مازالت المراهنة على نجوم التفاهة تغري اكثر؟.
دائما لحظات الجوارح هي لحظات تأسيساتية؛ تدمر وتبني في نفس الآن، والمطلوب أن نخرج بدروس مائزة من هذه التجربة المريرة التي تمر بها الإنسانية جمعاء. بطبيعة الحال إذا نظرنا في طريقة تعامل المغاربة مع هذا الوباء، سنجد بأن هذا التعامل هم سياقين: سياق الافتراضي وسياق الواقعي في نفس الآن، وإن كان السياقان معا متداخلين حيث يمتد الواقعي في الافتراضي وينسحب كذلك الافتراضي عن الواقي أحيانا. خطابان أساسيان تخلل هذا التعامل؛ خطاب التهوين وخطاب التهويل في نفس الآن. التهوين الذي اتخذ مسار النكتة ومسلك التقليل من أهمية هذه الجائحة واعتبر أنها لا يمكن أن تمسنا وما إلى ذلك، وخطاب آخر مضاد وهو خطاب التهويل والترعيب لدرجة أننا دخلنا في صلب رعب معمم بهذا المعنى، هكذا توزع المغاربة شيعا بين خطاب تهوين وخطاب تهويل، ولكن علينا أن ننتبه بأنه في الواقع، ولما انتشر الخبر وبدا للناس بأن الحجر الصحي سيكون واقعا، ما الذي حدث ؟
قلنا قبلا في أول سؤال بأن الجوائح واللحظات العصيبة قد تخرج من الناس أجمل ما فيهم ولكن أحقر ما فيهم أيضا، أخرجت ركضا وتسابقا نحو تخزين الطعام ونحو احتكاره ونحو الزيادة في الأسعار ونحو ممارسات مشينة في كثير من الأحيان.
دائما يتفاوض الإنسان مع لحظات الخطر ومع مجتمع الخطر، إما أن تكون له المناعة الأخلاقية والقيمية التي تساعده على مواجهة الخطر بنوع من الحكمة وبنوع من التبصر والثبات، وإما أن يكون نتاجا لسنوات التطبيع والتجهيل والتحقير. شيء طبيعي أن نجد تلك الممارسات ونجد هذا الارتفاع الصاروخي في حالة الاعتلال بهذه العدوى، لماذا ؟ لأننا في النهاية نحصد ما زرعناه، نحصد واقعا زرعناه، فكيف بنا اليوم طالبين من هذا المواطن أن يكون منتصرا لخطاب الانضباط ونحن لم نعلمه قبلا كيف يكون منضبطا، كيف نريده اليوم ان يكون منتصرا للقيم المثلى وقيم التضامن ونحن لم نعلمه قبلا هذه القيم. لهذا اقول بأن هذه الجائحة كشفت أعطابنا، كشفت محدودية إمكانياتنا، كشفت بأننا فعلا لا نتوفر على إمكانيات مهمه في قطاع الصحة، لا نتوفر على تعليم عن بعد ولا على إمكانيات مهمة لتمكين الأساتذة من متابعته، كما لا نتوفر على تغطية (صبيب النت) في كل الأماكن لتمكين كل هؤلاء الطلبة وكل هؤلاء التلاميذ من الاستفادة من هذا التعليم عن بعد. هذا ما يؤكد أن ما بعد كورونا ينبغي أن يكون انشغالا على الذات، ينبغي أن يكون مواجهة لأعطابنا، أن نستثمر في التعليم، في الصحة، في الأمن الغذائي، أن نستثمر في الإنسان وأن نعيد بناءه، أن نعيد تشكيله بناء على قيم التعاضد والتضامن.

ولهذا، يمكن اعتبار كورونا واقعا ودرسا، هي فعلا جائحة، ولكنها أيضا درس أساسي نتعلم منه الكثير ويستوجب علينا أن نتعلم منه.

حمزة لغزال

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *