هجرة غير نظامية بربيع 2019

قوارب الموت

قارب صغير يتهادى فوق الأمواج، يتدافع كل شبر من مساحته الصغيرة عشرات الأشخاص المتراصين، يتكوم كل واحد منهم على نفسه، ويلف ذراعيه على متاعه الزهيد، تتعالى الأصوات حين تضرب موجة عاتية : الله أكبر… الله أكبر.
ويخفت الأنين حين يأخذ منهم التعب كل مأخذ. مشهد اعتيادي لا تختلف تفاصيله كلما جازف أحد المراكب الصغيرة بعبور الأبيض المتوسط في جوف ليل ربيعي مظلم، و في مؤخرة القارب الخشبي المتهالك جلست القرفصاء بين رفاق رحلتي، وبدأت أسناني تصطك من البرد، أما أوصالي فارتجفت من الخوف والهلع، وبهذا أصبحت تشيع قشعريرة وتوجسا.
أما الرحلة فقد كانت طويلة وممتدة، واليابسة لا تلوح في الأفق، حين غادر المركب بنا شاطئ سبتة، كانت السماء حالكة السواد، ومعتمة تسترت عن المتسللين الذين كنت واحدا منهم، في غفلة عن أعين الحرس. جميعنا إلتقينا في قارب الموت لنفس المعاناة : بطالة وفقر، ومستقبل مجهول، وسبل مسدودة. لا شيء حولنا سوى الماء ولاشيء غير الماء لأميال طويلة.
ارتفعت الشمس إلى كبد السماء في بطء ومدت أشعتها تدفئ أجسادنا المرتعشة وتجفف ملابسنا المبللة، ثم قست سطوتها حتى كادت تحرق رؤوسنا.
البعض منا اصابهم دوار البحر، فراح يفرغ أمعاءه الفاسدة في الماء، البعض الآخر راح يهلوس كالمجنون. الى ان أرخى الليل ستاره ليحجب عنا الرؤية،لنعود إلى خلوتنا من جديد نرتشف جرعاتها على مهل.
أسئلة كثيرة تتخبطني من قبيل : ما الذي جعلني أقدم على خوض تجربة صعبة كهذه رغم ما أعرف من مخاطر محدقة بي؟ ما السبيل الذي سيؤول إليه مصيري في آخر المطاف؟ لكوني لم أخبر عائلتي بمخططي الانتحاري إذا ما صح التعبير، لكن مجرد تذكر مآسي ومعاناتي الروتينية اليومية ابقى حاسما في امري وغير مأنب الضمير، فقد سئمت التسول من أمي التي لاتزال تقدم لي مصروفي اليومي .
عزمت على “الحريك” منذ ما يقارب السنتين، كل شيء بدأ من مقهى “العم حسين ” حيث يجتمع شباب الحي العاطلين عن العمل يتداولون أخبار الرفاق المحظوظين في العبور إلى الضفة الأخرى (اسبانيا).
جمعت المال المطلوب، وحين اكتمل المبلغ المحدد (4 ملايين) وجدت أحدهم ينتظرني ليضيف إسمي إلى قائمة “الحراكين“. وضبت حينها أغراضي في حقيبة صغيرة الحجم، ثم تسللت ليلا، وترقبت السيارة التي ستقلنا إلى القارب. ثلاث ساعات من الطريق المظلمة الوعرة قبل أن يتوقف، ركبنا عند الشاطئ المنعزل المتواري عن الأنظار. سرنا بين الحشائش العالية المتلاصقة حتى وصلنا؛ هناك انتظرنا وانتظرنا، رأيت حجم المعاناة والمأساة، مئات من الناس المنكمشين على أنفسهم، أما البرد فقد نهش أجسادنا كصناديق مخزنة للشحن.
مشينا حتى الشاطئ الرملي نتعثر في الظلام وتنزلق أرجلنا بفعل الحشائش الصغيرة اللزجة، ثم خضنا في البحر تلطمنا الأمواج فيغمرنا الماء. تلتصق الأجساد ببعضها البعض وتختلط الأنفاس وتضيق الصدور، ترتجف أوصالي وشفتاي الجافتان، فأبتلع لعابي وأضم ساقاي إلى صدري وأتكور على نفسي.
هبت ريح قوية جعلت المركب المتهالك يهتز بعنف ويترنح يمينا ويسارا، فشقت غيمة سوداء السماء، تلتهم المسافات وتغدو نحونا منذرة بعاصفة وشيكة،فصرخ الربان ” الرايس” :
– عاصفة…. تمسكوا جيدا… عاصفة قادمة.
نظرت حولي فلمحت الهلع والخوف يطل من عشرات العيون، فارتفعت الأصوات بالابتهال والتضرع إلى الله
– الله أكبر… لا إله إلا أنت الحي القيوم اللهم ارحمنا.
مرت الدقائق بطيئة قاسية وما لبثت أن أمطرت غزيرة قوية وغطى دوي الرعد السماء، فأدركنا حينها أننا هالكين لامحالة.
وبدأ الصراخ يتعالى بين الركاب: مستوى الماء يرتفع… سنغرق… سنغرق.
ارتفعت موجة هائلة من ورائنا، ورمت بالقارب عشرات الأمتار في الهواء،عابثة بكل محاولات التشبت التي قمنا بها، فتتراءى لك الأجساد تتساقط من القارب كألعاب الدمى الخشبية. أيقنت حينها أني على وشك الغرق، راحت شفتاي تتمتم بالدعاء والابتهال فلا منجي من الله إلا الله جل جلاله، ثم شعرت بجسدي يرتفع عن القارب المحطم بعشوائية ويحلق في السماء. تشبثت بأحد قطع الخشب التي تلهو بها الرياح. اجتاحت مياه مالحة فمي وأنفي وامتلأت ببطني، راحت أطرافي تتخبط بالأمواج وخارت قوى جسدي، ضباب كثيف غلف عيني ولم أعد أرى سوى ظلام دامس…
أشعر بالهواء الذي ينساب عبر فتحات أنفي لينشر في أنسجتي ورئتي الأوكسجين وتعود دقات قلبي إلى الانتظام. أوجاع كثيرة تفتك بجسدي وصداع قوي يشق رأسي شقين، افتح عيناي ببطئ فتزعجني أشعة الشمس الحارقة وأعود لأغمضهما من جديد، هدوء غريب يلف المكان، وصوت أمواج البحر يرتطم بالأحجار،حينها انتبهت للشاطئ الرملي الملقى عليه جسدي المتهالك، فأدركت أني نجوت من موت وشيك!.
وخلصت أن التجربة مريرة ولكن ليست بنفس مراراة واقعنا البئيس، الذي تم خلقه ليستئصل طموحاتنا ويغتصب آمالنا ويضيق علينا آفاقنا في هاته الحياة والبلاد السعيدة .

هجرة غير نظامية بربيع 2019

سلوى القجبال

طالبة علم الاجتماع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *