لوثة المتنبي في رباط متعصي

قراءة في رواية رباط المتنبي

من الجور بدها الحكم على حضور المتنبي في عالمنا الحاضر بأنه محض خبل ومس؛ إنه ولا ريب في ذلك -المتنبي- الشاعر مالئ الدنيا وشاغل الناس، فمن منا لم تقرعه رنة جرسه في مدح ذاته قائلا:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي … وأسمعت كلماتي من به صمم

إن حضور المتنبي في ذهنية من تلمظ بأصغريه متع الشعر القديم لنعمة ومنحة، لمن اكتفى بالوقوف على جزالة اللفظ، فالمصنوع منه والمطبوع، وانتظام السجع والقافية، ثم ما توافق من جناس وتضادَ من طباق…
إنها محسنات بلاغية برع فيها فحول الشعر القديم وبز فيها شأو المتنبي، تناولها دون غضاضة المحدثون من النقاد أبرزهم طه حسين في كتابه “مع المتنبي”، وبلغت مبلغها في نفوس المستشرقين منهم، فهذا ريجيس بلاشير (1900-1973) سكنه هوى المتنبي وظفر بلبابه، فكان أن عكف عليه بالدرس والتفسير في إحدى أطاريحه “أبو الطيب المتنبي دراسة في التاريخ الأدبي”.
لعمري، إنها نعمة وحظوة لكل ذي ذائقة أدبية تمخر عباب الماضي دون تأفف وتبرم، بيد أنها في حضرة “رباط المتنبي” نقمة اعتورت حياة صاحبها أو لنقل غانية بجيد حسناء تثوي داخلها حية رقطاء؛ استنكفتم التشبيه؟ لا بأس، سآخذكم رويدا رويدا لفهم مغزاه.

إن الراوي في عمله، يعتبر المتنبي صلة الوصل الأولى مع الشعر العربي القديم، إنه ذكرى الانشداه والاندهاش الأولى، ذلك الحب المقرون بالوجل والإعجاب المشفوع بالإكبار؛ حب في غضارة العمر وفوعة الشباب “… أحببته في أشكال مختلفة. أحببته محبة الوجل، وكان ذلك في مطلع الشباب، مما كنت علمته، وكان ما يأسرني جزالة لفظه وسحر جرسه ص103…” ما كان من سبيل إلا أن يترسخ في وشيج النفس فالقدر لا يخلف موعده “… كنت أجد المتنبي في كل منعرج. شاءت الأقدار أن أدرس على شخصيتين أشربتا حب المتنبي، أديب تمثل تراث الأندلس، الحاج امحمد باحنيني، وأمازيغي لم يستهوه مديح المتنبي بقدر ما استهوته حكمه، محمد شفيق ص107…”
أثرة المتنبي دون غيره من الشعراء في الصبا كان ولعا بما تثيره الشقشقة اللفظية التي لم تعد تستبد بصاحب الرباط فتغويه، إذ لا معدى من إشهار مبضع العقل ف “… الشعوب والأمم تحتاج إلى شعراء وأدباء، ولكنها في حاجة إلى مفكرين أشد، أي من يحملون تصورا عن الحياة ويعبرون عن وجدان قومهم ويحملون عنهم رسالتهم ص105…”
يدعي صاحب الرباط أنه اتخذ تركة المتنبي وراءه ظهريا، فها هو ذا ينكفئ على غزير الثقافة الغربية التي تأتمر بسيادة العقل وتحتكم إلى ميزان العلم، إذ اسبينوزا لديه هو الرابط بين عقلانية ديكارت وفلسفة الأنوار، وهو المرحلة الأساسية للانتقال من مؤثرات الفكر الغيبي إلى الفكر الموضوعي، وأوغست كونط الوضعي عالم العلم، عالم التفكير البارد، عالم الإنسان المتحرر الذين لا يدين بوجوده لأحد، عالم يأثم بالعقل، ويؤمن بالحرية، إنهم أعلام آمنوا بالإصلاح في تجليه الأرضي الوضعي بعيدا عن نصب “fantasmagorie/الفانتسماغوريا/”

لم يكن من إغراء الحضارة الأوروبية وقع سوى أنها تذكير بالإنسان كوجود سامي منفصل عن أي فصيلة أو انتماء قد يغور به في غياهب التصنيفات، وإنها لمأساة انقذع بمرها الراوي فهو إن كان أمازيغي المحتد فقد شكك في إخلاصه لبني أرومته، وإن أتقن العربية وملك لسانها -في وقت بعدت الشقة بينها وبين بني ذؤابتها- اعتبر متآمرا على صناهجة العترة الشريفة، فما الحل لذلك وذاك؟ وهل كانت مسكنات القراءة الغربية غير ذي جدوى في دفع الضر فكان الاستنجاد بالمتنبي موئلا ومآبا تسمع فيه شكاة الموتور فيبثه عجره وبجره؟ هنا تداخل الأزمنة غدا ممكنا لنفس قريحة ترى أدواء ثقافة تهلهل سداها وثلم من بنائها التاريخي الشيء الكثير وما بقي تلخص في السبي، الفيء والغزو والإغارة والقنا. “لماذا حل المتنبي بساحتنا في زماننا هذا؟ أليست الحروب التي صورها وأحسن تصويرها بين جند سيف الدولة الحمداني والروم، تجليا للحرب الدائرة في سوريا؟ ص185″، “ولكن كيف يمكن الانتقال إلى حضارة مغايرة؟ يمكن الانتقال من زمان المتنبي إلى زماننا، أو إلى الزمن العربي في يسر، لأن البنية لم تتغير، بل يمكن أن ننتقل إلى زمانه دون أن نشعر بالوحشة إلا ما قد نحرم من بعض الأدوات التي التي اعتدناها، كالكهرباء والسيارة والكومبيوتر، ولكننا سنستأنس بسرعة لأنها البنية الذهنية ذاتها، يطبعها التفكير الميتافيزيقي، والمقاربة الانشطارية من علاقات ثنائية بين حاكم آمر ومحكوم خانع، وليست عقدا… المرأة بضاعة، والأطفال تحت الحجر، ولا مكان إلا للرجال، ولا وضع إلَا لهم، والرأي قاطع…ص213”
لقد كان المتنبي ذلك الضيف الذي قدم له القرى فبطره، ذلك الشريد (نحن هنا لا نتحدث عن شخص الشاعر فهي محض استعارة أدبية نثرية لتأدية المعنى) الذي أدخل الديار فعاث فيها، فقد أوقع حليلة صاحب الرباط في الغواية “المتنبي هو سبب المأساة، أو جزء منها. سحر الجميع بقوة نظمه وجزالة شعره… آويته وقد أعرض عنه الجميع… آويته ولم يجد حاضنا ولا مؤنسا… ومن ذا يؤوي شخصا معتدا بنفسه، يملؤه الزهو ويستبد به العجب؟… رق قلبي له وقد أتاني لاجئا… كنت أرى ما حل بالعراق من تمزق، وما لحق بسوريا من دمار، وكان ذلك يدمي قلبي… خشيت أن يندثر لسانه ويغور شعره…كنت أحسب المتنبي من يمسك مفاتيح الحل لوضع معضل… كنت أعده نيتشه عربيا… نيتشه من فصيلة أخرى يحقق الإنسان الأسمى… يبرئ قومه من لعنة الميتافيزيقا والخمول والتواكل والتفسيرات الغيبية…”
لم يكن المتنبي الحل بل كان ذهانا أوثق الراوي في مارستان، لم يحرر الثقافة العربية من أغلالها ولم يحفظ الأندلس الفكرة من التآكل، بل أعاد فرز العطن والوخم وكان محنة من حيث هو منحة تجاوزت إسار العصر ف”المتنبي لا يحمل حلا، ولكنه رمز، أو أسطورة، والأمم تحتاج إلى رموز وأسطورة أو أيقونات ص109″ إنه رمز “بادعائه للقوة، لأن العالم بلا قوة (حجة لاجئ إليها اللئام)، بدعوته إلى التمرد، لأن لا افتخار إلَا لمن لا يضام …ص330” ولأن الرمز يعبر عن إرث لا مادي، إذ يقول توماس كارليل “لو خير الإنجليز ما بين الهند وشكسبير لاختاروا شكسبيرعلى الهند”.
قراءة الرواية تعدكم بالكثير فلا تفوتوها!!!

شيماء الغازي

طالبة باحثة بسلك الدكتوراه ومدونة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *