مفهوم الهامشية بين اتجاهين 2

اتجاه علم الاجتماع المعاصر

لقراءة الجزء الأول:

مفهوم الهامشية بين اتجاهين 1


نظرة علم الاجتماع المعاصر للهامشية
أصر علماء الاجتماع المعاصرين على امتلاك تصور جديد للفعل الاجتماعي ينطلق من تنظير علم الاجتماع الكلاسيكي لينفتح على المدينة المعاصرة كواقع يفرض نفسه بقوة. اعتبر السوسيولوجيون المعاصرون أن تاريخ المجتمع لا تصنعه القوى المهيمنة فحسب، على أساس أن الهيمنة لا تستمد مشروعيتها من أديلوجية الطبقات المهيمنة وحدها، بل كذلك من استبطان الطبقات المهمّشة، لتصبح هذه الأخيرة طرفا فاعلا في هامشيتها.

امتدادا لهذا، حرّج السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو على أن لكل قوة دور في صلب البنية، فلا وجود لقوة مجتمعية بدون فاعلية. كل القوى داخل المجتمع هي حاملة لرساميل تختلف باختلاف رهانات الصراعات الاجتماعية، والتي تتوزع بين ما هو ثقافي، اقتصادي، سياسي، إجتماعي، وهلم جرّا. مما يبين أن نجاعة تلك الرساميل تختلف كذلك باختلاف البنى الاجتماعية. لا يخضع هذا التوزيع للرساميل بين الأعوان الإجتماعيين الموزعين توزيعا طبقيا لمنطق الإعتباطية، وإنما بناء على نوعية الحقل الذي ينخرط فيه هؤلاء الأعوان، وبناء على منطق الهيمنة كذلك.
ففي الحقل الثقافي مثلا، تعود الهيمنة لمالكي الرصيد الثقافي الذين يبدعون ويجدّدون للحيلولة دون لحاق الأعوان الآخرين بهم وامتلاك قيمهم ليجعلوهم أدوات إجترار لقيم أكل منها الدهر وشرب.

إعادة إنتاج قيم المهيمنين هي ببساطة تشريع لهيمنتهم، فالقوى الخاضعة – في هذه الحالة – هي قوى إجتماعية تدفع – بدون وعي منها – بالمهيمنين لأحكام سيطرتهم والسعي الدؤوب لتعميق الهوة بينهما كقوتين فاعلتين، ومنه نستنتج أن القوى الخاضعة هنا ليست فئات اجتماعية مهمشة، بل بالعكس هم أعوان اجتماعيون مساهمون في العنف الرمزي الذي يمارس عليهم بتواطؤ منهم. وكأن فاعلية الهيمنة لا تحصل إلا بفاعلية الطرفين: المهيمن والمهيمن عليه. فالحق الاجتماعي إذن – في نظر بيير بورديو – هو متسع للصراعات الاجتماعية يتخذ فيه الأعوان الاجتماعيون مواقعهم حسب الإستراتيجيات التي يتبنونها والتي تسعى إلى ضمان مواقعهم أو الحفاظ عليها أو تحسينها. وبهذا المعنى، فالمهمشون ليسوا مجردين من كل القوى أو القدرة على الفعل، بل يملكون كذلك استراتيجيات مضادة تتناسب وفاعليتهم في حقل الصراع. أضرب هنا مثل المثقف كعون اجتماعي في البلدان العربية ومدى فاعليته داخل الحقل السياسي. المثقف قد لا يحسن التموقع بنجاعة داخل هذا الحقل لأن رأسماله الثقافي والأرصدة التي يملك لن تكون ذو منفعة داخل اللعبة السياسية أو تمكنه من امتلاك قواعدها أو حيل إدارتها بما يضمن له الإستفادة منها. في كثير من الحالات يظهر هذا “الغبي سياسيا” كبش فداء لأخطاء لم يرتكبها فيحكم عليه بالفشل. كل ذلك بسبب حيلولته دون استفادة أقليات دافعها ومبتغاها الربح المادي بالأساس. فالمهمش إذن، يحدد بموقعه كعون إجتماعي داخل حقل معين ومدى فاعلية الرأسمال الذي بحوزته داخل ذلك الحقل. هامشية المثقف داخل الحقل السياسي لا تعني أنه محكوم بأن يكون ذاتا هامشية فقط، بل قد يكون عون اجتماعي مهيمن في الحقل الثقافي مثل بفاعلية وقوة الأرصدة والرأسمال الثقافي الذي يملك بحيث يحسن إدارة اللعبة ويتحكم فيها لصالحه. وبالتالي فإن اهتمام علماء الاجتماع يكون منصبا على الهياكل والبنى الاجتماعية التي تفرز الهامشي وليس هو كذات.
ربط السوسيولوجي الفرنسي آلان توران التهميش بنمط مجتمعي و فعل تاريخي محددين، بحيث أن الهامشي في المجتمع قبل الصناعي هو ليس الهامشي في المجتمع الصناعي أو بعده. فهو لا يعيش في فراغ اجتماعي، فالصراعات الاجتماعية محكومة برهانات محددة تتماشى مع توجهات ثقافية معينة فضلا عن مستوى تطور التقنية وقوى الإنتاج في المجتمع. فاعلية الفاعلين الاجتماعيين في حقل فعل تاريخي معين مرتبطة بمدى إدراك هؤلاء لهويتهم الاجتماعية ولما يتطلبه منهم واقع الصراع. وبذلك يكون ضحية الفعل السلبي كل من لا يملك الأدوات والآليات لتحقيق ما قد يدفعه إلى الفعل ويحفزه عليه. كل القوى الاجتماعية – في نظر آلان توران – قادرة على الإتيان على الفعل، لكن قدرتها تختلق من حيث درجات الحركات، فنميز ما بين حركات ذو شحنة قوية وحركات ضعيفة لا تعمل إلا على إعادة إنتاج نفسى العلاقات القائمة.
كما أشرنا، أكد ألان توران أن طبيعة الحركات الاجتماعية في المجتمع الصناعي تختلف عن طبيعتها في مجتمع ما بعد الصناعي. في هذا النمط الأخير، لا تتعدى مطالب الهامشيين إلا في المشاركة والاندماج في مجتمع الاستهلاك بفعل وطأة الأجهزة الإعلامية التي جعلت القوى الاجتماعية جمهورا مستهلكا وسهل الانقياد. عكس ما كان عليه الفاعلون الاجتماعيون في المجتمع الصناعي، حيث شكلوا أنذاك المركز في المجتمع بحكم قدرتهم على المفاوضة وتمثيليتهم داخل ذلك الكل، ملزمين خصومهم بأخذ مطالبهم بعين الاعتبار والإستجابة لها.
يقول آلان توران : “لا نستطيع أن نطلق اسم حركة مجتمعية على رواسب المطالب غير قابلة للتفاوض.. بموازاة ذلك، لا يستطيع النشاط الجماعي، الذي يتحدد بالقطيعة مع النظام القائم، أن يحدد قوى مجتمعية فاعلة.”

حوّل التطور التقني الوضعية العمالية التي كانت مشتركة بين كل العمال إلى وضعية متباينة ومختلفة من فئة عمالية إلى أخرى بفعل تباين مصالحهم ومطالبهم، مما أضعف قدرتهم على التفاوض. لا تقبل بعض الفئات العمالية أن تتساوى مطالبهم مع الفئات الأدنى منهم خبرة وكفاءة، غير أن ذلك لا يعني أن هذه الفئات المهمشة من العمال لا تملك القدرة على الفعل والدفاع عن مطالبها.

مفهوم الهامشية بين اتجاهين 2

عثمان الهاسوتة

عثمان الهاسوتة فنان تشكيلي و قاص من مدينة ايت اورير. رئيس تحرير سابق لمجلة المشتل التي يصدرها المرصد المغربي للتربية و التكوين. صدر له مجموعة قصصية معنونة "الصفعة الأخيرة" و له قيد الطبع رواية بعنوان "شخصية واحدة تحتاج أكثر من مؤلف". فاعل جمعوي يشتغل بالمجال الثقافي بمدينة ايت اورير مشرف على سلسلة "القلم" لإصدار إبداعات الشباب بجمعية الشباب الواعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *