شرعة و منهاجا

كيف نحقق الوئام والتعايش والسلام رغم الاختلافات؟

شرعة و منهاجا

هل منهاج دين الإسلام أتى ليلغي منهاج الديانات السماوية السابقة؟ بعيدا عن الاختلافات، ماهي الركيزة الأساسية التي ينبني عليها كل من الإسلام والنصرانية واليهودية؟ كيف يمكننا تحقيق “غاية ما” تجمعنا ونحن على ديانات مختلفة؟

أسئلة وأخرى نجد أجوبتها في الآية الخمسين من سورة المائدة {لِكُلّٖ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةٗ وَمِنْهَاجاٗۖ وَلَوْ شَآءَ اَ۬للَّهُ لَجَعَلَكُمُۥٓ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِے مَآ ءَات۪يٰكُمْۖ فَاسْتَبِقُواْ اُ۬لْخَيْرَٰتِۖ إِلَي اَ۬للَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاٗ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَۖ} صدق الله العظيم.
إذا قمنا بتقسيم الآية إلى أربعة مقاطع فإننا سنجد أربع أجوبة مترابطة:
أولها: أن الثوراة شرعة ومنهاج، الانجيل شرعة ومنهاج، والقرآن شرعة ومنهاج أيضا. فشرعة الله لم تكن واحدة لكل الناس في كل العصور وهذا ما يفند مزاعم من يدعي احتكار الأحكام الشرعية لدين دون الآخر، فالحقيقة الوحيدة التي يمكننا احتكارها هي أن اختلاف تلك الأحكام الدينية لا يتعارض مع عقيدة التوحيد التي تمثل الركيزة المشتركة بين اليهودية والنصارنية والإسلام.
ثانياً: لم يكن عصيا علي الله عزوجل أن يجعلنا أمة واحدة ولكن حكمته اقتضت أن يكون لكل رسول رسالته الخاصة وأمته الخاصة أيضا. ولعلي أخمن أنه ما كانت لتعمر البشرية مئات الآلاف من السنين وهي على منهاج واحد؛فالاختلاف سنة إلهية لها أهدافها؛ إنها ليست خروجا عن النص بل هي صلب الموضوع وجوهره، ومظهر من مظاهر استمرارية الحياة على هذا الكوكب.
ثالثا: تركيز اليهود والنصارى والمسلمين يجب أن يكون على فعل الخير لا غير، إنها المسألة الوحيدة التي يجب أن تتنافس الأديان الثلاثة فيما بينها، بدل الهجوم على بعضهم البعض وإهدار طاقاتهم في أمور تبعدهم عن الهدف المرسوم لهم.

استنزاف الجهد في الصراع على الأفضلية أو الأحقية بخصوص أمور لن يكون حسمها دنيويا هو ضرب من ضروب الجنون وكمن يصب الماء في الرمل، لأنها وببساطة كبيرة جلسة مؤجلة الفصل ومناظرة ميقاتها يوم القيامة حيث سيقول الله كلمته الحاسمة. ما يهم الآن هو سباق الخيرات وليس سباق القيادة أو ما شابه.
رابعا: تكملة لما سبق، أيّها اليهود، أيّها النصارى ويا أيّها المسلمون، لا تعطوا أدنى اهتمام لتلك الاختلافات، لا تبحثوا عن أجوبة ليست موضوع امتحانكم، ليس ذلك من اختصاص البشر، وحده الله القادر على توضيح دلالة وماهية ما استشكل علينا فهمه واستيعابه.


في نفس السياق، أشار الإعلامي الكبير أحمد الشقيري في كتابه أربعون في جزئية “مع قرآني” إلى حادثة حصلت في المدينة المنورة، حيث أنه وقع تحاج بين المسلمين وأهل الكتاب، وكل فريق يقول للآخرين: نحن خير منكم ويحتج لذلك ويقول: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. يقول أحمد الشقيري، عندما حصل هذا الموقف تتوقع أن تنزل آية تؤيد المؤمنين وتنصرهم على اليهود والنصارى، ولكن نزلت آيات رائعات تلخص النظرة الإلهية لموضوع اختلاف الشرائع.فأنزل الله في سورة النساء: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهْلِ اِ۬لْكِتَٰبِۖ مَنْ يَّعْمَلْ سُوٓءاٗ يُجْزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدْ لَهُۥ مِن دُونِ اِ۬للَّهِ وَلِيّاٗ وَلَا نَصِيراٗۖ (122) ۞وَمَنْ يَّعْمَلْ مِنَ اَ۬لصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ اَوُ ا۟نث۪يٰ وَهُوَ مُومِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدْخُلُونَ اَ۬لْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراٗۖ (123) وَمَنَ اَحْسَنُ دِيناٗ مِّمَّنَ اَسْلَمَ وَجْهَهُۥ لِلهِ وَهُوَ مُحْسِنٞ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاٗۖ وَاتَّخَذَ اَ۬للَّهُ إِبْرَٰهِيمَ خَلِيلاٗۖ(124)} .
إذن الموضوع ليس بأماني أتباع محمد ولا بأماني أتباع موسى وعيسى، الموضوع ومافيه أن من يعمل سوءا منكم جميعا يُجز به ومن يعمل خيرا فيكم جميعا سيجزى به أيضا. وبالتالي، الحكم الفاصل بين الجميع هو العمل الصالح والسباق إلى الخيرات.
يحز في قلوبنا أن نرى أناسا تكفر هذا وتزج به في جهنم وتمنح الآخر بطاقة الولوج إلى الجنة لأنه فقط ليس على دينها أو فكرها. وقد اتضحت أمور كثيرة مع فاجعة كورونا حين سمعنا وقرأنا حول ألسنة تردد وتغرد ما معناه أن الله سينجي المسلمين ويتجاهل غيرهم.. اهتدوا لله، فرحمته ولطفه يسعان الجميع.
مثل هذه التصرفات تضعنا موقف تساؤل حول ما إذا كان الإنسان مستوعبا لعمق رسالة البشرية أم لا… نحن هنا على هذه الأرض لخلافة الله فيها وفق روح رسالاته.
أعتقد أن اختلاف الشرائع والمناهج رؤية إلهية تقتضي التكامل بغرض تحقيق الكمال، وأرضية تفتح عقل المؤمن على أسئلة وجودية تقوده إلى الاجتهاد.
ومن الاختلاف الشرائعي إلى الاختلاف العرقي، مرورا بالاختلاف الجنسي والشكلي والسلوكي تبقى الحكمة الإلهية حاضرة، ويستمر الاختلاف في تزيين هذه الحياة الدنيا، في إطار رسالة كونية مفادها أن الاختلاف رحمة وموطن الإبداع والتميز وليس أرضية للحيف والتبعية والتمييز.
كانت الحياة ستكون عصيبة وبدون معنى لو كان هناك لون واحد، شكل واحد، فكر واحد، ذوق واحد، نمط عيش واحد واتجاه واحد ….
في اختياراتنا الصغيرة قبل الكبيرة عندما تكون الخيارات متقاربة نبحث عن تلك التفاصيل الصغيرة التي تخلق وجه الاختلاف، لأن هذا الأخير وحده من يساعدنا على القرار… نعم، إنه نفس الاختلاف الذي لا نتقبله ونهاجمه في مواقف أخرى.
لذلك احترم أهم قانون في الحياة ولا تتعامل معه بمزاجية … احترم الاختلاف أيا كان مساره.

ختاما، تقبل الاختلاف والدعوة إلى الحرية الفردية خطان متوازيان، إما أن ينطلقا معا أو لا ينطلقا، إنهما بمثابة شلالين كل واحد يصب في الآخر؛ فمن ينادي بالحرية فهو يحترم اختلاف الآخر معه تلقائيا، ومن يحترم الآخر فهو بديهيا مؤمن بحرية الاختيار.
ومادام القرآن قد نادى إلى الاختلاف، فإلى أي مدى نادى إلى الحرية أيضا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *