صراع الايديولوجيات ونهاية زمن التبعية

التمرد الفردي لأجل نهضة مجتمعية

حافظت البشرية على ثباتها، فنفس السبيل الذي مر به الأجداد نعيد تنميقه ونمره به أيضا، لذا يمكننا القول:” ليس لكل عصر سبيله، بل لكل عصر نفس السبيل لكن بشكل مغاير”. لا ننكر أن كل فترة من الزمان تركت بصمة تاريخية كانت درسا للعصور القادمة حتى خلّدها التاريخ، وبالرغم من زعمنا على أننا أخذنا العبرة من الماضي ومضينا في سبل مغايرة إلا أننا نسلك نفس المسار بطريقتنا المعاصرة، ويبقى مآل الأجداد هو مآلنا.
صار من الواضح أن هناك نواة تغيير في سبيلنا، وهذا سينْصّب في مجتمعاتنا وثقافتنا وتطورنا، هناك أشياء بدأنا نفكر فيها بنوع من العقلانية والتحليل المنطقي، وهناك أفكار بالية ومفاهيم بدأت تسقط وترتطم بأرضية النهاية، أحد هذه الأشياء التي بدأت تنتهي مع هذه النوعية من التحركات الشبابية هي الإيديولوجيات، لأن الشباب فهموا أن الأيديولوجيا سامة، فلاوجود لأيديولوجيا إيجابية أو أخرى سلبية.

الحصول على موقف ايديولوجي يفترض أنك تفهم الواقع بشكل فردي، لكن احتمالية ذالك لا تتجاوزالصفر، ففي كتاب “الأيديولوجيا دفاتر فلسفية” للمؤلف محمد سبيلا عبد السلام بنعبد العالى (ص17-18)، قد تمت الإشارة إلى ف.شاتليه الذي اعتبر أن الأيديولوجيا مشيئة، فهي تهدف إلى “ابقاء الوضع الحالي للأشياء” فهي في جوهرها مضادة للتاريخ، ويشير م.رودنون، من جهته، إلى الطابع الثنائي للإيديولوجيا، هذا الطابع الذي يصادر على التنقيص من قيمة كل الصراعات غير تلك التي يجد المرء نفسه منخرطا فيها، أي إضفاء صيغة مثالية على الجماعة التي ينتمي إليها الشخص، و”إضفاء صبغة شيطانية” على الخصم (…)
في القرن الحادي والعشرين وفي كل مكان في العالم، كان لدينا اليمين المتطرف والمثال المذهل للاشتراكية واليسارية والشيوعية، لكن كل هذا كان وقت ضائع وحماقة استمرت في كل طيف من أطياف هذه الأيديولوجيات، وأخيرا اليوم البشرية ملت منها وأدركت أن الأيديولوجيات أفلست، ولعلها طوال العمر مفلسة؛ لأن من المستحيل خلق نظام جيد وانت في حاجة إلى شن حرب ايديولوجية ضد الآخر، وهذه هي السياسة التي حذونا حذوها وكانت أكبر وهم.

فالسياسة هي جذلية أسسوها لإبقاء الناس في معارضة مع أنفسهم، وآلية للسيطرة على العقول، الأيديولوجيا سممت هذا الكوكب فهي لعبة رديئة تمثلت في:  لون البشرة، والعرق، والجنس، والدين، والقنابل والحروب، وهي لعبة المال والسيطرة ايضا.

إن كرامتك وإنسانيتك أعلى من أن تختلط في أي ايديولوجيا، فكلها رديئة ومتشابكة مع بعضها البعض، وسامة للقيم الإنسانية وكما أنها ليست جديرة بالتصديق والاحترام. ومما جاء في الكتاب الذي سبق ذكره في فصل “الإيديولوجيا السياسية” – الإيديولوجيا والاستبداد: المسخ الإيديولوجي للواقع- (ص51) “…فهؤلاء مازالوا تحت تأثير السحر،التعصب أو المسبقات البرجوازية أو البرجوازية الصغرى. ينتج عن ذلك أن التربية الموجهة نحو ((خلق النوع الانساني)) أو نحو ((اعادة تربية الجماهير)) تختلط بالاستبداد الممارسة على النفوس. والحال أو مقاومة الواقع قد حفرت هوة هائلة بين الرأي العادي والرأي الإيديولوجي. فالتربية الثورية أو العمل الإيديولوجي هي قبل كل شيء إذن تلقين تصور خيالي وهي ما فوق الواقع الإيديولوجي. فالإيديولوجيا، من حيث هي غير قادرة على تعديل واقع الأشياء، فان تهاجم وعي الناس بالأشياء.”
فما سبق قوله، ليس انقلابا على أحد أو على حزب أودولة… بل على العكس هو انقلاب على الذات، انعكس على كل المفاهيم الرديئة التي كنا نؤمن بها، فهذا تمرد فردي وليس بثورة، لعلها السبيل الأفضل والأرقى لحصد نتائج أسمى فالثورة تحمل نوع من التطرف، وهي تتطلب الحشد والتخطيط والاستقطاب، أما التمّرد فلا يتطلب سوى الفرد نفسه، الفرد المتمرد يغير نفسه وكيانه لتجربة نهضة عقلية وروحية لشخص جديد في داخله.

يجب أن تتمرد على أفكارك وانحيازك وتعصبك، إنها عملية الفحص الذاتي الواعي هي التي خلقت جيلا أكثر وعيا، وهذا الجيل هو الذي سيخلق مجتمعا واعيا، وبالطبع سيؤدي الى تآكل التأثيرات السامة (الايديولوجيات)، حتى فيما يتعلق بالإيمان الديني، هناك تطور روحاني أعمق وأرقى من الأسلوب الذي تم اتباعه منذ مئات السنين، وهذا الفهم الجديد للدين والإله وعالم الماورائيات جاء من الرغبة بالإحساس بالتجربة الذاتية المباشرة التي منعوها عنا، وهذا كان من أهم العوامل التي أدت إلى بداية تفكيك الايديولوجيات والتخلص منها من خلال هذا الترياق الجديد وهو رفع التجربة المحسوسة إلى أعلى مستوياتها والذي تبخر بسببها هذا الوهم الايديولوجي، وهذا ما سمح لنا نحن الشباب الأذكياء أن نأمل ونحلم ونسترجع ما فقدناه من إبداع وخيال وأفكار لم يكن لنا منها قدر كاف لتغلب على الأزمة الثقافية التي نواجه لكونها أفكار قادمة من أجندات أصولية قومية دينية، بعثية، حزبية، رأسمالية، اشتراكية، وشيوعية…

غير أنها ببساطة لم تكن كافية وغير حقيقة لذلك فشلنا وفشل التاريخ والمنطق، وهذا أكثر شيء سبب لنا الوجع والجراح، لكن هذا الجرح هو ما يحمل مفتاح مصيرنا. فهمنا أخيرا أن هناك حقيقة واحدة فقط؛ أي أن كل شيء متناقض ومتغير ولاوجود لليقين في أي مكان وبإمكانك تفسير أي شيء بطريقة ومن ثمة تفسيرها بالمعنى المعاكس، فمثلا بإمكانك تفسير أن تاريخ العالم كله تطور وتقدم حيث أنه يمكن بناء تفسير آخر باعتباره لا شيء سوى انحطاط ولا معنى لكل هذا التاريخ الإنساني. المعنى الإنساني الحقيقي بإمكانك أن تكتشفه لوحدك بدون أن تتبع أي شخص أو حزب، التبعية هي مكان وموقف إنساني ليس له معنى لتضع نفسك فيه، “الحيوانات الأليفة تتبع مالكها ولكن أنت لم تخلق لتكون تابعا لأحد ولا مملوكا ! وإذا حاولوا إقناعك أن هذا هو السبيل الوحيد لتتلاءم مع ثقافتك ومجتمعك فهذا كله كذب، فعلى العكس، لقد جئنا لنخلق عالما مليئا بالتنوع ونحتفل به ويحتفل بتفرد كل شخص فينا، إذا انتشر التفرد عبر المجتمع هذا سيصاحبه انحلال وذوبان الحدود بين البشر. التبعية عفا عنها الزمان منذ وقت طويل ولا تحفظ كرامة الإنسان على الإطلاق.
اليوم ليس هناك إلا مخرج واحد وهو التقدم للأمام، أو الهروب إلى الأمام من خلال الإبداع والعلم والهندسة والإدارة السليمة والضغط على دواسة الفن إلى أقصى ما يمكن. فلم نصمم  بعد مجتمعا حقيقيا، لم نقم مطلقا بإدارة مجتمعاتنا، لم نحاول أن نجعل كل ما نقوم به أن يكون برنامجا جماليا، ومن هنا دخلت الفوضى إلى حياتنا، بسبب غياب هذه الأجندة الجمالية. بحثنا بلهفة عن الحقيقة، وليس هناك أي حقيقة أو لا يوجد حقيقة صالحة وكاملة عند أي أحد، يجب أن نتوق إلى كمال أنفسنا، إلى الإله الذي بداخلنا، وليس للأفكار والكتب، والبيانات الحزبية السياسية والعقائدية، ولا بانتظار ظهورالوحي على قنوات التلفزيون أوعلى صفحات الجرائد، لأن الحقيقة تعاش ولا تدرس.

Exit mobile version