وتسقط الخيل تباعا

نوستالجيا جيل السبعينات والثمانينات

كم هو جميل ذلك العالم الذي فتحنا فيه أعيننا نحن جيل السبعينات والثمانينات، الجيل الذهبي الذي جاء بعدما طوت بلادنا صفحات من ماض بئيس أنهكته ويلات المجاعات المتكررة، وأوبئة طاحنة، واستعمارا لازال يلقي بظلاله على الساحة إلى الآن.
جيل السبعينات والثمانينات ذلك الجيل الذي عاش الحياة في أبهى حللها، شتاءات ماطرة مليئة بلحظات دفء عائلي غامر تحت وقع زخات المطر، والكل يلتف حول المائدة لاحتساء أكواب الشاي، تلك الأجواء التي تغنى بأنسها ودفئها الشعراء ورواها الرواة في حكاياهم الحالمة.
جيل السبعينات والثمانينات الذي لاحق الفراشات بمختلف ألوانها وأشكالها في حقول الربيع الزاهية، وقطف السنابل قبل أوانها، وتمتع بأكل اللوز وهو لازال في زهوره الوردية.
هذا الجيل الذي استمتع مواليده بقضاء العطل الصيفية في بيوتهم إما باللعب بالدمى الخشبية وغيرها من الألعاب التي أبدعتها أيديهم الصغيرة، أو أمام شاشة القناة الأولى، فمن منا لا يتذكر القناة الصغيرة أيام الأحد، ومن منا من لم يشاهد كابتن ماجد وماوكلي وبيل وسيباستيان وغيرهم من رسوم الزمن الجميل…

جيل السبعينات والثمانينات الذي كان يتوق للعودة إلى المدارس مع هبوب طلائع رسائل الخريف الباردة.
عندما نقول أن جيل السبعينات والثمانينات كان جيلا ذهبيا، فقد كان فعلا كذلك، لا في أخلاقه، ولا في بساطة متطلباته ولا في طريقة حياته وعلاقاته التي تطبعها الجبلة السليمة، والصدق الفطري، والتلقائية البريئة…
جيل افتخر بسعيد عويطة ونوال متوكل، وعايش بطولات المنتخب المغربي الذي شرف الرياضة المغربية ومثلها أحسن تمثيل بمواطنته الخلاقة.
عشنا الحياة ببساطتها من دون تعقيدات ولا فلسفات ولا متاهات الخلفيات الاجتماعية التافهة، رأينا الطبيعة الجبلية والسهلية وهي تنسج مناظر غاية في الجمال طوال فصول السنة، عندما كانت الطبيعة والإنسان يتعايشان ويتكاملان… وديان متألقة، بريقها اللامع يظهر من بعيد، شلالات يسمع صدى هديرها في الآفاق… قمم تكسوها الثلوج، أشجار باسقة وارفة الظلال، لحظات سحرية متلألئة يذوب فيها السكون، لحظات تأبى أن تغادر رفوف ذاكرتنا الطفولية البريئة.
أما حياتنا المدرسية فقد كانت فصلا آخر من الرقي، فالمدرسة المغربية عرفت أوج وهجها مع هذا الجيل، حيث كانت شهادة البكالوريا تضاهي مثيلاتها بفرنسا. جيل تلقى تكوينه على أيدي خيرة ما جادت به هذه البلاد من أساتذة ودكاترة وأطر تربوية أما التلاميذ فقلما تجد بينهم مشاغبا أو مهملا.
وبالرغم مما كانت تعانيه بعض الأسر من عوز وفقر إلا أن ذلك كان لا يقف حجرة عثرة أمام طلب العلم، كما لم يكن هناك ما يعكر صفو العملية التعليمية التربوية، من كثرة الوسائط الاجتماعية ولا كثرة القنوات والإذاعات والوثائقيات التي وصلت اليوم حد التخمة، وبالتالي فالطالب لا يتبعثر بين كثرة المعلومات المتضاربة ولا يتيه بين الآراء المتناقضة، ولا يضيع أوقاته بين هذه الزحمة وهذا ما كان يجعل فعلا التعلم مثمرا.
أما الجو الأسري فقد كان ينعم بالدفء والطمأنينة، للأم دور محدد وهو العناية بالبيت والأبناء، للتلفاز وقت محدد، وللعب وقت محدد، وللمائدة طقوسها الخاصة، وللتربية أسلوبها المتوارث، أما الأب فبوقاره وهيبته عندما يدخل للبيت يلزم كل فرد الهدوء والنظام.

وكانت الآداب والمعاملات والسلوكيات لا تخضع لكثير من النقد والجدل والنقاش، وكثرة القيل والقال ولا لعمق التحليل، عندها لم يكن الآباء يحتاجون لدورات تكوينية ولا تدريبية في مجال التربية، ولا يحتاجون حصصا مع أخصائيي السلوك والنفس والاجتماع، فقط الفطرة السليمة كانت سيدة المواقف…
ومع مرور الزمن بدأت ملامح الحياة تتغير والعادات والعلاقات وحتى أنماط المعيشة اليومية.
التمدين يتوسع شيئا فشيئا والبادية المغربية بدأت تفقد دورها الاقتصادي أمام توالي دورات الجفاف، مما جعلنا في حاجة ماسة لاستيراد أقواتنا، وهذه هي النقطة المفصلية لتحول مجتمعاتنا بشكل جذري، على إثرها ستعرف ساحتنا المجتمعية صراعات واحتدامات حادة بين جيلين، جيل يرفض التغيير والتجديد، وبشكل عام يرفض التعامل مع الغرب، ويرى فيه تهديدا على ثقافتنا وهويتنا وتقاليدنا، وجيل يرفض الماضي الذي يرى فيه رمزا للشقاء والجوع والجهل والتخلف. وماهي إلا سنوات وستبدأ المفارقات تظهر على ملامح المجتمع، وبعدها نسقط تباعا في شباك العولمة بكل قولباتها.
فبعد أن أكلنا المعلبات والمغلفات أكلا جما، وبعد أن لبسنا الملابس الغربية موضة وألوانا، وبعد أن انبهرنا بالغرب في كل مناحي الحياة جملة وتفصيلا، حاولنا تقليدهم، فتملصنا عن لغتنا وعاداتنا، وتفكيرنا، وأولوياتنا…
فتحولنا من أسر كبيرة تقطن رياضات وجنان واسعة -يسكن فيها الجد والعم والعمة والأبناء- إلى أسر نووية تسكن زوايا ضيقة في شقق لا تتجاوز مساحتها خمسين مترا مربعا.
تحولنا عن تقاليدنا وعادات حياتنا اليومية (الطهو، اللباس المغربي الأصيل، تقاليد الاحتفال….)
مجتمع اعتبرت اليونيسكو طهوه من التراث العالمي الذي يجب المحافظة عليه، وبالرغم من ذلك، أصبحنا مجتمعا يعشق البيتزا وال “هامبورغ” وغيرها من الوجبات السريعة ويتفاخر بها…
مجتمع انبهر العالم بأزيائه وملابسه التقليدية، وضرب بها المثل في الأناقة والرقي، إلا أننا استبدلناها بألبسة عصرية من جينز وبناطيل وتنانير مختلفة الألوان والأشكال، أما اللباس التقليدي فلا نلبسه إلا للمناسبات والمواسم الدينية.
من مجتمع ذو روابط عائلية وأسرية مقدسة، إلى مجتمع مقطع الأوصال…. فأصبحنا كما في كل بلدان العالم نبني دورا للعجزة، دورا لليتامى، دورا للطلاب، فنادق… بينما إلى وقت ليس ببعيد كان عجوزنا ويتيمنا ومريضنا ينعم بحضن العائلة، وكانت بيوتنا مفتوحة أمام طلاب العلم والمسافرين الذين انقطعت بهم الطريق.
أصبحت علاقتنا الاجتماعية على المحك، علاقات الآباء والأبناء ببعضهم البعض، علاقات مد وجزر، وكأنها العلاقات الدولية التي تطبعها المصالح والأنانيات والماديات والصراعات بعدما كان يطبعها التعاون والتضامن.
إذا كان هذا بين الأبناء والآباء، فما بالكم بالعلاقات الأخرى؟؟؟
عندما كنا مجتمعا بسيطا تحكمه الفطرة السليمة وقيم الشهامة والمروءة كانت علاقاتنا أمتن وأقوى، نعترف بنضال الأب، وتضحيات الأخ، وإحسان الجار، ووفاء الصديق، أما اليوم مهما تكن تضحيات مع بعضنا البعض فهي رماد وسراب في عيون من ضحينا من أجلهم.
عندما كنا مجتمعا نسبة أميته أكثر من متعلميه، كنا أمة خلاقة، أما وبعد أن أصبح الولوج وإمكانية التعلم متاحة أمام الجميع، فقدنا الكثير من آداب الحوار والكلام وصلة الأرحام خاصة مع وسائط التواصل الاجتماعي.
عندما كنا نعيش في مجتمع كانت كلمة الأب فوق الجميع وكانت فيه الأم نقطة وصل بين الجميع، عندما كنا في مجتمع الكل فيه يساهم في التربية أخا أختا، عما عمة، جدا وجدة، جارا وجارة…، كنا جيلا نحترم الضوابط الاجتماعية والمعاملاتية والدينية.
أما اليوم في عصر عولمة الحقوق والحريات الشخصية والعامة أصبحنا نعيش الفوضى في كل تجلياتها، الفوضى الأخلاقية والفوضى الاقتصادية والفوضى الثقافية وحتى العلمية.
وهكذا تمت عولمة الفوضى فصرنا لا نأبه بالضوابط والأخلاقيات والأدبيات، وانهارت منظومة القيم واختلط الحابل بالنابل، وتشابكت الحقائق والاتجاهات والإشاعات والأكاذيب، فدخلنا متاهات عوالم لا نهاية لها، وغرقنا في بحور حيرة وضبابية لا قيعان لها.
عشنا عقودا من الأمان والهناء والرغد، ربما قد ضاقت البشرية ذرعا بهذا الأمان والرتابة، وأرادت التغيير فتمادت في أحلامها ورغباتها، فتجردت من الضوابط والأخلاقيات، واستغلت العلم شر استغلال، فوقعت الكارثة.
هاهي ذي العولمة تجر للبشر شر الأوبئة، فبعدما كانت تسعى لتوزيع المنافع بين البلدان، وتصدير البضائع والتكنولوجيات والثقافات والمعارف إلى الإنسانية، أصبحت اليوم تصدر الأزمات والمخاطر بكل أصنافها، المالية منها والبيئية وحتى الصحية، فبعد الازمات المالية العالمية، وبعد التلوث العابر للحدود، جاء عصر عولمة الفيروسات القاتلة والأوبئة الفتاكة على أوسع نطاق، فلا تكاد الانسانية تتخلص من فيروس حتى تسمع بظهور آخر، فبعد الجرثومة الخبيثة، الإيبولا، سارس، أنفلونزا الخنازير، انفلونزا الطيور، جاء دور الكورونا
هكذا تغيرت حياتنا مرة أخرى، ونسقط تباعا في شباك الكورونا كما في كل بلدان العالم.
الكورونا في زمن العولمة لم تنفع معه بعد المسافات، ولا غلق الحدود الجوية ولا البرية ولا البحرية، لا القرارات المستعجلة، ولا الاجتماعات الاستثنائية، ولا الكمامات ولا الأدوية ولا التباعد الاجتماعي ولا كل ما يخطر بالبال من حلول لم تعد مجدية لوقف زحف الكورونا، فوصلت هذه الأخيرة إلى مشارق الأرض ومغاربها، فتوقفت الحياة المعاصرة في كل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة.

        أحد الشوارع المغربية أيام الحجر الصحي

توقفت الحياة الاقتصادية، والحياة الاجتماعية، والحياة الثقافية، وحتى الحياة الدينية توقفت.
ترى من الذي حدث وكيف حدث؟ وما السبيل للخلاص من هذه الأزمة؟ أين كل ذلك الصخب والضوضاء والزخم والزحم الذي عانينا منه سنوات وسنوات، في الشوارع والمحطات والأسواق والمدارس والساحات العامة والمراكز التجارية… كيف صار كل شيء ساكنا وهادئا فجأة؟
أمام هذا المد الجرثومي الكاسح، علقت رحلات، وأغلقت حدود ومدارس ومساجد، قطعت أوصال أسر، وأعلن الحظر على جميع الأنشطة، حتر صارت المدن أشباحا لا تكاد يسمع فيها إلا صوت سيارات الإسعاف والشرطة.
وفي غمرات الصمت الحادة، بدأنا نعد أنفاسنا أمام هول الكارثة التي حلت بنا، ذعر يسكن الأزقة، أرواح الناس تستباح في خفاء تام على الطرقات، المرضى بالجملة والتقسيط في المراكز الصحية والمستشفيات، والجثث تتراكم في مستودعات الأموات…
سكون اقتصادي رهيب يسمع لانهياره دويه الأخير، ليحدث رعبا آخر، فمن لم يمت بالكورونا قد يموت جوعا أمام توقف عجلة الاقتصاد وتسريح العمال.
أسئلة تبدو أجوبتها مرعبة ورغم ذلك، يبدو أن مجتمعنا المغربي كغيره من المجتمعات، قد نحا كما في كل مرة نحو جعل الكورونا مادة للفكاهة والإشاعة والتنكيت والغناء “الكورونيات”، وبعد إشاعة نكران وجود الفيروس، وأمام تفشيه المهول، بدأت نداءات تتعالى وانتقادات للحكومات والمنظمات في كل البلدان على تأخرها في اتخاذ الاحتياطات اللازمة، و شظايا اتهامات تتقاذف هنا وهناك، تأويلات وتفسيرات لأصل الفيروس في كل مكان، ونصائح لتجنب الإصابة به على كل الألسنة، كل تملص عن دوره في الحياة، حتى صار الكل يتحدثون بألسنة علماء وأطباء ومختصون في المجال.
فيروس يضرب عرض الحائط في وقت وجيز كل قيم الإنسانية والتحضر والرقي، يضرب عرض الحائط كل مبادئ القانون الدولي ومبادئ المجاملات والعلاقات الدولية، فيكشف عن الوجه القبيح لهذا العالم.
فيروس يكشف الستار عن الحقائق يوما بعد يوما، ويظهر مستويات الدول والأنظمة عند قيمها.
لقد كشفت الكورونا عن معادن البشر وأرتنا قبح البعض وأنانياتهم وجشعهم وعنصريتهم، كما أرتنا إخلاص البعض الآخر وتفانيهم وتضحياتهم بـأنفسهم وأرواحهم، لقد عرت الكورونا زيف الأنظمة الكبرى واستغراقها في تضليل المجتمع الدولي وتوهيمه بالأخلاقيات الغربية والديموقرطيات والحريات والحقوق…لقد أسقطت الكورونا كل الأقنعة تباعا، في زمن يوصى ويجبر فيها بارتداء الأقنعة.
سيمضي الوباء وستنجلي الأجواء، وستتزين السماء بأزهى الأضواء، وسنعانق الأحباب بعد طول غياب.
فقط ما نتمناه أن نعيد النظر في مساراتنا واختياراتنا وقناعاتنا، أن نعيد ترتيب أفكارنا، وقيمنا، وأهدافنا، كي لا نسقط كما في كل مرة عندما تسقط أولى الخيول…

Exit mobile version