وكان عرشه على الماء

أرخص موجود وأغلى مفقود

في تعريفها البسيط للماء على أنه مادة شفافة عديمة اللون والرائحة والمذاق أيضا، تنسى مقررات المدارس ذكر معلومة مهمة؛ وهي أن الماء تركيبة عجيبة حيَّرت علماء الكيمياء، خبراء الجيولوجيا، أخصائيي علم الأحياء الدقيقة وفطاحلة مجالات الطب العام والصوتيات وغيرهما من التخصصات.

إنه الماء الذي اتخذه الإنسان إلها في الأديان السابقة -ولا اندهاش من عبادته- وهو الماء الذي تنسب إليه حضارات عدة كحضارة قدماء المصريين على ضفاف النيل وحضارة بلاد الرافدين، والذي أنهى حضارات أخرى كحضارة السومريين مثلا. إنه الماء الذي يحمي الأنسجة والحبل الشوكي والمفاصل ويحافظ على رطوبتها، ولولاه لما استطاع الإنسان أن يتخلص من فضلات جسمه.

إنه الماء الذي ذُكر في القران في 23 موضعا، أشهرها الآية 30 من سورة الأنبياء: {وَجَعَلْنَا مِنَ اَ۬لْمَآءِ كُلَّ شَےْءٍ حَيٍّۖ}.

ومن نافلة القول أن الماء هو عصب الحياة، هو سلامة جسم الإنسان وصحته، هو نظافة البيت والملبس والمأكل، هو نظافة الشوارع والمدارس والمستشفيات؛ الماء هو اللبنة الأولى في الفلاحة وركيزة لابد منها في الصناعة، وشأن لا غنى عنه في السياحة وباقي الخدمات… الماء هو بنية المجتمع المتحضر وأساس الاقتصاد القوي، منبع الفلسفة ورمز في التاريخ القديم والمعاصر، أداة إلهام في الأدب وحركة مهمة  في الرياضة .. وسيكون متحكما في سلام هذا الكوكب مستقبلا، لعقود وأعوام.

أينما وليت وجهك تجد الماء حاضرا أو مستشهدا به، هو الرابط العجيب بين شتى مناحي الحياة، به الحكاية تبدأ وبه تنتهي. فاستسمحوني في جولة سريعة نتعرف فيها على أهم خصائص الماء التي جعلت منه لغزا من ألغاز هذا الكون الفسيح وبوصلة الوجود على هذه المعمورة.

الماء والكيمياء
الماء هو أعجب الخواص في دنيا المركبات، في علم الذرة وعلى مستوى الجزئيات. جميع السوائل بفعل الماء تنزل إلى الأسفل باستثناء الماء الذي يصعد إلى أعلى عكس الجاذبية. هذه الخاصية هيأته ليصعد في جذوع الشجر والنخيل والنباتات، ولولا هذه الخاصية ما ارتوت ساق خضراء فوق الأرض.

الماء هو السائل الوحيد الذي يتجمد عند صفر درجة سيلسيوس بدل المئة تحت الصفر ويتبخر في الدرجة المئة فوق الصفر بدل الدرجة التسعين؛ وهذا ما مكنه من أن يكون في المكان الواحد في الأرض على هيئاته الثلاث: بخار وسائل وصلب.

الماء يمتلك قدرات خاصة على إذابة الأشياء والتفاعل معها، إذ يأكل الحديد والصخر، ونصف المركبات المعروفة وُجدت ذائبة في الماء. وتركيبة الماء قائمة على ذرة الهيدروجين (الطرف الموجب) وذرة الأوكسجين (الطرف السالب) وهذا ما يجعل منه مغناطيسا قادرا على استقطاب وإذابة أية مادة.

الماء والجيولوجيا
الماء هو النحات اليومي للأرض، مشكل القارات والشواطئ والسواحل، ناحت مجاري الأنهار وقيعان البحيرات، ناقل الجبال وممهد الوديان.

الماء وعلم الأحياء الدقيقة
في مواقع البحوث المجهرية وبميكروسكوب صغير وعلى نقطة واحد من الماء.. تخيل نقطة واحدة من الماء نكتشف فيها فيروسات، بكتيريا، فطريات وطحالب… كائنات تتعايش وتتفاعل وتتنافس ..نقطة واحدة من الماء التي نراها بعيينا المجردة جرم صغير انطوى فيه العالم الأكبر.

الماء والصوتيات
تفضل الضربة القاضية !
للماء قدرة عجيبة على تخزين المعلومات وله ذاكرة تسمى ذاكرة الماء، وهو يثأتر بصوت الإنسان ويحمل طاقة شفاء ينقلها إلى كل عضو من أعضاء الجسم. وقد بينت دراسات للعالم الياباني “مسارو أموتو” في مجال تأثير الصوت على الماء، إذ قام بإخضاع قطرات من الماء لترددات صوتية مختلفة، فلاحظ أن ترتيب جزيئات الماء تتغير بتغير الترددات الصوتية.

الماء والصحة الجسدية والنفسية [1]
من البديهيات أن غسل اليدين بالماء هو أقوى خط دفاع ضد الميكروبات التي تصيب الإنسان، إذ يستطيع قتل الميكروبات والجراثيم بفضل الطاقة الحرارية المخزنة بداخله، والتي تنتقل إلى داخل خلايا البكتيريا فتعطل البروتينات التي تحتاجها هذه الأخيرة لتقوم بمهامها.

تنقل شعيرات الأعصاب الدقيقة الموجودة على سطح جسم الإنسان “طاقة الماء” لتحسين الدورة الدموية، وبذلك يتحسن عمل أعضاء الجسم الداخلية ويتخفف الإحساس بالألم، هذا ما يفسر نشاطنا بعد الاستحمام؛ إذ عامة ما نتحول من مسلوبي طاقة إلى مفعمين بها بعد الاستحمام. فإذا كنت تبحث عن الهدوء والطمأنينة عليك بالاستحمام بالماء الدافئ، أما من يريد التنشيط واللنتعاش عليه أن يستحم بماء بارد.

وقد أبانت دراسات عديدة أنه لو نقصت كمية الماء في الجسم بما يعادل نصف لتر فإن هرمون الكورتيزول يرتفع، وهو هرمون مسؤول عن مستوى دقات القلب وسرعة التنفس. ودراسات أخرى أكدت أن كمية السوائل في الجسم لو انخفضت بما يعادل 2% فإن ذلك يسبب ضعف الذاكرة وصعوبة التركيز، وأن نقص السوائل بالجسم هو أهم سبب للإحساس بالارهاق والتعب أثناء النوم. ولمعلوماتكم، العطش ليس مؤشرا على نقص كمية الماء بل دليل على أن الجسد قد بلغ مرحلة الجفاف !

إنه الماء عنصر الأحياء والعلاج والتنشيط والطاقة، أمره عجيب ومدهش، الماء الذي يعمل خارج جميع القوانين الفيزيائية للطبيعة ! إنه الماء الذي كان عرش ملك الملوك عليه، لقوله تعالى {وَكَانَ عَرْشُهُۥ عَلَي اَ۬لْمَآءِ} (سورة هود – الآية 7)، وتشير هذه الآية إلى أن الماء خلق قبل أن يخلق الله السموات والأرض، فمن الطبيعي أن يكون سلطان الله على الماء الذي هو منشأ الحياة.

إنه الماء الذي أشار إليه القران بتشريف وتعظيم وارتبط ذكره في أكثر من مرة بالجنة؛ قال تعالى :

{وَأَنزَلْنَا مِنَ اَ۬لسَّمَآءِ مَآءٗ طَهُوراٗ} (سورة الفرقان – الآية 48)

{وَنَزَّلْنَا مِنَ اَ۬لسَّمَآءِ مَآءٗ مُّبَٰرَكاٗ} (سورة ق – الآية 9)

{جَنَّٰتٖ تَجْرِے مِن تَحْتِهَا اَ۬لَانْهَٰرُ} (سورة النساء – الآية 121)

{وَمَآءٖ مَّسْكُوبٖ} (سورة الواقعة – الآية 33)

إنه الماء الذي سيأخذ بعدا استراتيجيا أكبرمما هو عليه الآن، فالتغيرات المناخية ومشكل الاحتباس الحراري يهدد معظم الدول العربية بموجة جفاف قاسية، وهو ما يطلق عليه الخبراء حرب المياه في الشرق الأوسط، والتي ستكون أهم صراعات القرن الحادي والعشرين. فمتى نعي حجم الكارثة ومتى نتعلم حسن تدبير هذه الثروة المائية التي لن يعوضها لا نفط ولا غاز ولا فوسفاط .. لن تنفع بغيابها أية  مقايضة ولا أية مفاوضة!! متى نعمل بوصية سيد الخلق فلا نسرف ولو كنا على نهر جار.

ختاما، يقول المفكر والفيسلوف والكاتب المصري مصطفى محمود في كتابه “الروح والجسد”: ليس أحلى من طعم الماء في فم العطشان، إنه أحلى من العسل والخمر وأحلى من القبلة وأغلى من مليون جنيه، بل أغلى من كل ذهب الأرض بالنسبة لرجل يموت من الظمأ.

أتمنى أن لا يعيش أحد منا هذا السيناريو المفجع…!!


[1] بتصرف من مقال من كتاب “ومحياي” للدكتور وليد فتيحي.

Exit mobile version