طار و لم يعد

قصة قصيرة

جالسا على مقعد في الحديقة وحيدا، هناك أخذ سعيد يفكر…

غرفة مظلمة، تلفاز قديم من شركة فيليبس وسرير صغير لا يكفي حتى لطفل بعمرالعشر سنوات، هذه مكونات غرفته، مكانه الذي يقضي فيه معظم أوقاته وهو جالس على حافة سريره النتن. أخذ ينظر الى نافذته المربعة حيث حط طائر سنونو هناك. نهض سعيدا وتوجه بخطوات متثاقلة نحو الطائر وهو يحملق فيه، اقترب من النافذة وأخرج كسرة خبز من كيس بلاستيكي موجود على الأرض، اقتطع قطعة صغيرة ووضعها بجانب السنونو، هذا الأخير لم يخف أبدا ولم يحاول الطيران بعيدا، بل بدأ يأكل ببطء ويحرك رأسه بسعادة.

– من أين جئت أيها الصغير؟ ردد سعيد.
– أنا لست صغيرا أيها الأحمق! أجاب السنونو.

رجع سعيد إلى الوراء بخفة متعثرا بسريره ليسقط على الأرض.

– هل تستطيع الكلام؟
– بالطبع أستطيع، أنا الوحيد بين جميع طيور السنونو الذي يستطيع ذلك.
– من علمك ذلك؟
– صديقي البشري.
– ما اسمه؟
– اسمه سعيد وهو يشبهك تماما.
– يشبهني؟ حتى في الإسم؟ هذا غريب حقا!
– غريب! أكثر من استطاعتي التحدث؟
– نعم! أنت الآن تخبرني بأن رجلا يشبهني حتى في الإسم علمك بعض الكلمات.
– لم أقل بعض، بل في الحقيقة الكثير من الكلمات، ربما أنا أتحدث أفضل منك حتى!

نهض سعيد من مكانه واتجه نحو الباب مطأطئ الرأس وهو يهمس بهدوء لنفسه “أنا أحلم، أنا أحلم“، أدار رأسه الى النافذة لكنه لم يجد الطائر هناك.

نزل في السلالم بسرعة، فكر سعيد في ابنته التي لم يرها منذ ثلاث سنوات. تحجج بالخوف كوسيلة لمواجهة هذه الوساوس التي تأتيه من حين لآخر، الخوف من كون ابنته لن تحبه، لأنه بئيس، لم يجد عملا منذ شهور، فقط يتجول ويتسكع في خيالاته العديدة الغير المتجانسة أبدا مع الواقع، فهو لا يستطيع أن يعرف الحب إلا إذا فكر بابنته، لأنه يحبها كثيرا رغم أنه ينكر ذلك دائما عندما يتحدث مع نفسه في أواخر الليل ويقول لها أن الحب ما هو سوى وسيلة لنخلص أنفسنا من الشرور، وهو لا يريد التخلص من الشر الذي يحس به دائما، بل يعشق ويحب شره، لذا فهو يبقي الحب متعلقا بالشر وبابنته فقط، هكذا تجول الأفكار اللامنطقية في عقله المنطقي، فيقول له المنطق “اذهب إلى ابنتك يا أبله!“.

أفكار ليس لها معنى، أفكار بدائية بدأت تستعمر عقله. هناك في باب المبنى، تخرج جثة هامدة على قيد الحياة تسمى سعيدا، يحاول أن يمشي في هذا الشارع البئيس لكن كل محاولات المشي باءت بالفشل، ليجلس على الدرج المؤدي الى داخل المبنى ليسترجع إحساسه قليلا بالحياة، كان يحدق بعينين نصف مغمضتين إلى الحديقة التي كانت تبعد بمسافة ليست بالبعيدة، نهض من جديد وتوجه إلى هناك. في الحديقة وجد مجموعة من الناس متجمهرين حول شخص ملقى على الأرض، أخذه الفضول وتوجه للحدث.

انحنى سعيد على الأرض ليحاول مشاهدة الشخص، كان الرجل يشبهه تماما، ارتعب سعيد وتجمد في مكانه لكنه في اللحظة الموالية رجع بقوة إلى الوراء وبدأ بالركض إلى الناحية المقابلة. في طريقه، رأى السنونو الذي كان في نافذة منزله، كان الطائر على كرسي خشبي مهترئ، وصل سعيد وجلس بجانبه.

قال سعيد كأنه يهمس:
– هل كان صديقك ذلك الرجل هناك ؟
لم يجب السنونو لفترة، ثم ردد قائلا :
– كان إنسانا صادقا، على الرغم من أنه  كان يكذب دائما على نفسه، كان يحب ابنته الصغيرة لكنه لم يرها منذ فترة طويلة، لا أعرف لماذا، لكنه كان يقول لي أنه يخاف أن يراها بكل بساطة.

حدق الطائر في سعيد، ثم طار بعيدا حتى لم يعد يُرى. جلس الرجل البئيس هناك في حالة من الارتباك المتميز بكونه لا يجعلك ترى او تسمع شيئا ولا تستطيع أن تفكر حتى في فكرة واحدة، لكن في الحقيقة،كانت فكرة استثنائية تدور في رأسه لكنها غير موجودة في عقله ولأول مرة أحس بشيء يثقل قلبه.

لم يكن يعرف أن هذه الفكرة ستغير حياته للأبد وتجعله اسما على مسمى من جديد. بدا سعيد مفتونا ومتفاجئا برؤية السنونو مرة أخرى في السماء، وقف على الكرسي  قفز وطار بعيدا وبجانبه الطائر الصغير، طار إلى حيث يجب أن يطير بدون جناحين، فقط بيدين تلوحان بسرعة فائقة.

سأل سعيد السنونو:
– ما هي وجهتي؟
رد الطائر بهدوء:
– أنت تعرف ذلك مسبقا صديقي العزيز.

طار الصديقان الجديدان القديمان بعيدا، بعيدا جدا…!

خالد موقدمين

طالب باحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *