من فكرة المقاطعة إلى تشريع قانون المعاقبة 22.20

مآلات حرية التعبير بالمغرب

لم يمر على المقاطعة الشعبية لبعض المُنتجات الغذائية التي تنتجها شركات كبرى في المغرب زمن كثير، هذه المقاطعة التي خلفت من التداعيات ما وصف بالصدمة التي أدت إلى ركود اقتصادي لعدد من هذه الشركات التي كانت محلا وموضوعا للمقاطعة بغض النظر عمن أطلقها وكان وراء شن هذه الحملة، ذلك أن تحقق النتيجة المرغوبة من طرف الشعب كان بمثابة انتصار كبير، تجسدت من خلاله معاني التلاحم الشعبي في مواجهة من يستنزف جيوب المواطنين بمنتوج يساوي ضعف قيمته في الوطن وقيمة نظيره في الدول المجاورة رغم أن اقتصاد هذه الأخيرة يفوق اقتصاد المغرب.
ومما يثير الغرابة خروج مسؤولين في الحكومة التي يفترض أنها منبثقة من الإرادة الشعبية للإدلاء بتصريحات إعلامية تندد بالضرب بأيد من حديد على كل من ينساق وراء تيار هذه الحملة، التي أبانت عن بسالة الشعب وخاصة شبابه، وعن فقدان الحكومة لمصداقيتها وتناست كل شعاراتها البراقة التي لطالما رفعتها أحزابها للدعاية الانتخابية ونكوصها عن المبادئ التي سطرتها ضمن برنامجها. كما أن الموقف الذي تبنته وسائل الإعلام الرسمية والذي أثبت تخلُّف هذه الأخيرة عن الإشادة بهذه اللحظة التاريخية، تاركة الدعم المعنوي لنفسية هذا الشعب المغلوب على أمره، الذي أصبح يقاتل في الساحة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي لم يكن للحكومة السياسية أي قدرة على إحكامها ولم تجد سندا لتطويقها. ولربما ظلت الحكومة منذ تلك اللحظة يراودها كابوس المقاطعة الذي لازال يؤرقها كلما جمعها برجال المال والأعمال لحظات حميمية لا تكاد تكتمل دون حتى تُنشر إعلاميا.
فبعد أن وجد الشعب نفسه في غمار هذه الحرب بمفرده، وبعد أن غضّت حكومته بصرها، وأخرس إعلامه لسانه، واتجه الكل ليصطفّ في الطرف المقابل، إزدادت حماسة الشعب وحميته، ورأى في وسائل التواصل الاجتماعي الملاذ الأخير، من شأنه تبنّي مطالبه وتقبل احتياجاته وبث أفكاره، فاحتضنه وقد كان في حاجة ماسة إلى من يناصره، ليخرج من هذه اللحظة التاريخة بكرامة وأنفة، يواجه بها خيانة من لا مسؤولية ولا أخلاق ولا ضمير له.
وبالفعل انتصر الشعب ورضخت الشركات المعنية لمجمل مطالبه المتمثلة أساسا في تخفيض الأثمان وضمان جودة المنتجات الغذائية، ورفع مسؤولوا الشركات شعارات برّاقة تخطُب بها ود الشعب، وتنشده رضاه عن منتجاتها على أمل وقف المقاطعة عند ذلك الحد، الأمر الذي يُنبئ عن خوف شديد انقدح في قلوب رجال الأعمال، عرفوا أنهم يواجهون خصما لا يستهان به لم يعد يستسيغ الصمت وصار له من الوعي ما يحركه.


لم تتقبل الحكومة الأمر وظلت تتربص بالشعب لترد له الصاع صاعين، إزاء تلك المقاطعة التي لم تنس قطّ وقعها، خاصة بعد أن ندد بعضهم في العلن بالتدابير الغير مُجدية ولسان حاله ينضح توبيخا وملامة، ومنذ تلك اللحظة والحكومة شاردة الذهن مشتغلة التفكير تحاول الخلاص لسبيل تلتهم من خلاله وسائل التواصل الاجتماعي حتى لا يبقى لها أي فعالية، أو أن تزج في السجن كل من كان وراء الحملة ولو بضغطه على زر الإعجاب، فأي حقد وأي كره تكنه مؤسسة منتخبة من إرادة شعبية على أمل التغيير، ليصيرها مؤسسة منتخبة لفعل السيطرة ومصادرة حرية التعبير، ذلك أن المعروف في أدبيات السياسة أن المؤسسات التي لا تحقق العدالة، فهي على نقيضها تؤسس للظلم والجور، وهذا ما تجلى صراحة بالتفصيل في مسلسل إعداد مشروع قانون 22.20 من قبل الحكومة يحمل في طياته أكثر من 22 مادة ذات طابع جنائي سالبة للحرية وأخرى في شكل غرامات مالية لعل أبرزها المواد 14-15-18، التي تجرم كل من تسوّل له نفسه التحريض على مقاطعة منتوج كيف ما كان نوعه، فحرية التعبير أصبحت جريمة مكتملة الأركان، وكأننا أمام قانون جنائي ينظم جرائم ماسة بالأشخاص ولسنا أمام قانون يؤطر مُعطى حرية التعبير، على اعتبار ان هذا القانون يضرب في العمق الحقوق الأساسية المكفولة على مستوى الدستور في الباب الثاني منه، خاصة الفصل 25 و28.
ومعلوم أن تجريم حرية التعبير يُعدّ خرقا سافرا للمقتضيات الدستورية، وكأن الحكومة ليس لها اطِّلاع بالدستور، أو أنها فوق الدستور تتاجر في بيع الحقوق لشعبها بالتقسيط وليس بالجملة. فبدل أن تقوم الحكومة بالمصالحة مع شعبها في هذه الأزمة الخانقة، أبَت إلاّ أن تُدِرَّ الملح على الجرح، و تقدم المواطن على طبق من ذهب لأرباب الشركات التي لا تحترم القدرة الشرائية للمواطن المغلوب على أمره، وأفقدت القاعدة القانونية من خاصيتها الاجتماعية وجعلتها ذات طابع ارستقراطي تروم حماية أرباب المال والأعمال.

إن مصادقة الحكومة على هذا المشروع وتمريره بما ينضوي عليه من طوام أقل ما يقال عنها أنها خرق للدستور وانتكاسة حقوقية، وإحالته على البرلمان أمر غير مقبول وقد عبر عموم الشعب عن رفضه جملة وتفصيلا، وإن كنا نأمل أن يتم التراجع عنه وإلغاؤه او يحال على المحكمة الدستورية لتبث فيه بعدم الدستورية ذلك أننا على يقين أن القوانين التي تلجم الأفواه وتحطم الأقلام تهدم نفسها بنفسها كما قال اسبينوزا.

من فكرة المقاطعة إلى تشريع قانون المعاقبة

أبضار رشيد

طالب باحث في القانون الدستوري والعلوم السياسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *