يكفيك شرف المحاولة

نوستالجيا الذكريات

وقفت عند باب غرفتي مترددة، هزيلة الجسم، مرتعشة الأطراف، قبل أن أتبين ملامحها طلبت منها الدخول. تقدمت بخطوات ثقيلة ثم جلست أمامي من دون أن ترفع نظرها عن الأرض، كنت أراقبها باهتمام في حين كنت أنتظر منها أن تبدأ الحديث لكنها لم تفعل ولو أوكلت إليها هذه المهمة لما تفوهت بكلمة حتى هذا الوقت!
ذكرتها بأننا في عيادة خاصة بالطب النفسي وهي لا شك لديها ما ترغب في البوح به سائلة إياها: كيف لي أن أساعدك؟
أخذت تتلفت في أرجاء الغرفة كأنها تخشى أن يسمعها أحد، ارتعش لسانها مرات عديدة مكررة حرف النون قبل أن تتدحرج ببطء من بين شفتيها كلمة “نسيان
أجبتها وأنا أشعر بعمق المأساة التي كانت تعيشها من خلال الدموع التي استوطنت عينيها رافضة أن تنهمر: هذا جيد ولكن نسيان ماذا؟؟

أدرت المفتاح ببطء كي لا أوقظ شيئا من ذكرياتي النائمة منذ أزيد من عشر سنوات، إلا أن رائحة طفولتي فاحت لتفيض شلالات من دموعي.
استلقيت على فراشي مزيحة من فوقه غبار الماضي؛ غبارا يحمل في كل حبة من حباته حدثا وقصة من حياتي. حاولت أن أنام لكن الليل كان بحاجة لنديم يشاركه السهر، ولن يكون هذا النديم سوى تلك التي أصبحت غريبة في وطنها! فالليل فضولي بطبيعته يعشق سماع الجروح التي ما أن يشرع النسيان في خياطة جزء منها حتى تسارع الذكريات ببتر خيوطه.
أحضرت ورقة و قلما من حقيبتي بسرعة والخوف مستعمر دم قلبي؛ خائفة أن يموت الكلام غريقا في بحور الصمت مرة أخرى.
لا أزال أتذكرني وأنا أستيقظ بوجه مبتسم، أتوضأ برشاقة غير معتادة ثم أجلس على سجادة الصلاة وكأنها بساط الريح تطير بي فوق أنهار الخشوع ووديان الأحلام و جبال الأمل {..}
ألقيت تحية الصباح على مسامع أبي الذي اتخذه الفراش منذ مدة صديقا وفيا له و بجواره أختي ملك لا تزال تغط في نوم عميق ثم قبلت يديه بحرارة وطلبت منه الدعاء.
ارتديت حذائي ومشطت الطريق نحو وجهتي المعتادة حيث ازدادت قوة الأصوات وتداخلت فيما بينها؛ أصوات بلا هوية واضحة، بعضها تعبير من صاحبها عن فرحته بنجاح انتظره بفارغ الصبر وأخرى نتيجة من لم يجتهد ويعد لهذا اليوم.
التقطت تلك الورقة البيضاء التي تحمل بين أضلعها مستقبلي -على حد تعبير كل من بادلتهم الحديث- امتزجت الأصوات مجددا في أذني لتعزف ذاكرتي مقطوعة أميزها جيدا، انطلقت بصوت الدموع وهي هاطلة على إيقاع عبارات المواساة وانتهت بعزف منفرد لصرختي. وبعد أخذ ورد بين قلبي وعقلي قررت أن أحمل خيبتي وأنصرف قبل أن يقام لي العزاء، لأجد هذا الأخير جالسا ينتظرني، أودع أبي و يبدأ!
كل ما أتذكره أنني وجدت أبي على فراش الموت لا المرض، وبقايا الحبر تلطخ إبهامه وتشهد بأن الأرض التي لطالما غردت فيها كعصفور ستصبح تحت تصرف من أنجبته. بدأت بالهذيان كمن يحتضر وتركت الحروف تخرج من أعماقي طابورا لا يعرف وجهته، يسير موازيا لآخر من علامات استفهام لا نهاية لها لعلني أفسر ميلان مركب الأمل الأخير الذي ابتلعه محيط الأقدار!
تلفظ جملته الأخيرة لتزعزع كياني مدى الحياة: يكفي..ك شر.. ف… المحا.. ولة، وهرول إلى حيث منزل أمي منذ ثمانية أعوام، أمي التي ماتت في مستشفى يحتاج لمستشفى آخر يتكفل بعلاجه! في ليلة أرسلت فيها الأرض صرخاتها للسماء لتعلن عن ولادة ملك.
فكيف لي أن أنسى ذلك اليوم بما تخلله من مشاهد و أحاسيس؟؟
بعد شهرين من عقد قراني باليتم الذي أنجب لي ابنتي الصغرى وحدة وابني الكبير حزن قررت أن أهاجرعبر قوارب الموت لعلني أحيا هناك، بعد أن أخذت جدتي أختي كضريبة لحريتي وعدم الانصياع لما تريد؛ الزواج من عجوز في سنها! كقريناتي في قريتنا اللواتي أنجبن ذكورا سيحملون شرف عائلاتهن! وكم اجتاحتني رغبة في أن يبكيني ضميرها بدموع الندم الساخنة علها تغسل صورتها في عيني!!
في الفترة التي قضيتها هناك أصبحت أفضل حالا مما كنت عليه فقد اكتسبت من السيدة كاثرين ما لم أكن قادرة على اكتسابه في بلادي الحبيبة، ليس سوى أنني كنت لا أخضع إطلاقا لأوامر الخوف الذي لم يستطع جمع المال الكافي ليسافر ويلحق بي. فبعد أن توجهت لعيادتها لعلني أجدني اعتذرت لي عن عدم استطاعتها مساعدتي حيث قالت لي بالحرف: لا تهدري وقتك في طلب النسيان بل حاولي أن تألفي الذكريات وتتعايشي معها حتى تصبح أمرا عاديا، والأهم أن تكتبي قصتك وتكتبي كل ما تودين البوح به لكل من شغلوا حيزا في ذاتك، وبعد أن تنتهي اقرئي ما خطته أناملك بتمعن وستجدين حتما العلاج في جملة واحدة!! وبعد اتصالات متبادلة نزعت المعطف الأبيض الذي حال بيننا لنصبح رفيقتين تتقاسمان نفس المهنة رغم فارق السن.

بعد سهرة إجبارية أمضيتها مع ذكرياتي و حنيني إلى الماضي، أرسلت الشمس أشعتها الدافئة لتذكرني بموعدي مع المؤسسة التي خرجت منها آخر مرة والحزن يستولي على كل جزء مني، تأملت الورقة التي تفيض بأحزاني وأنا خائفة أن يسقط الجسر الذي أحتاجه لكي تعبر من خلاله كلماتي، قرأتها مرات ومرات وكأنني لا أعرف محتواها، ارتديت ثوبا أعددته لهذه المناسبة عسى أن يتناسب مظهري الخارجي والداخلي مع الدور الذي سألعبه؛ ضيفة شرف، لا توجد جريدة لم تكتب عنها باعتبارها شخصية السنة ثم حملت هدية أختي بمناسبة احتلالها الرتبة الأولى جهويا وحصولها على ميزة ممتازة، تعالت موجة ابتسامتي وانهالت على شاطئي لتجرف معها أصداف الحزن بعيدا عن رمالي مرددة: يكفيني شرف المحاولة.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *