إطلالات على الحكمة القديمة

شذرات من حكم الحضارات القديمة - الطاوية مثالا

عندما نحاول أن نجد تفسيرا لما يجري على هذا الكوكب، يدفعنا إلى التفكير في أن كل شيء يتلاشى ويذوب، وهذا يدل على أن التاريخ فشل في إنقاذ هذا الكوكب ومن عليه، كل المؤسسات كانت غربية أم شرقية، لم تعد كافية للإلهام أو قيادة أو حمل أي شخص منا إلى مستقبل يستحق العيش فيه، وفشل في تقديم أي نوع من العوالم العقلية الذي كان لازما علينا أن نقطن بها. ونتساءل عن أنواع الأنظمة والقيم الذي يجب أن نعيش فيها على هذه الأرض، كلها كانت قيما دفعتنا إلى تضخيم ممتلكاتنا، رفع المنافسة بين الناس، تمزيق الأرض، الطبقية، العنصرية، التحيز الجنسي…

من الواضح أنه يجب التخلي عن القيم الثقافية التي عشناها، وخاصة الثقافة الغربية أو جزء منها، والعودة الى الحكمة القديمة التي وضعتها الحضارات القديمة، والفلسفة الشرقية التي تم تفسيرها والعبث بها من قبل الثقافة الغربية لتخدم مصالح ذاتية أنانية، ولم نفهم جوهر هذه التعاليم بسبب هذا التشويش الغربي، فمعظم الناس الذين مرو على هذه القوانين الكونية استغلوها لمصالح ذاتية أنانية. هذه العلوم والقوانين الكونية موجودة منذ آلاف السنين وجاءت لتخرجنا من هذا العالم المادي والسطحي، ويجب أن ندرس هذه القوانين بعيدين عن الأنا (ego)، سنجد أنها تعمل لترتقي الى مستوى روحاني نقي، وبغية خدمة البشرية كلها وكل الكائنات. على سبيل المثال؛ القوانين السبعة للهرمسية التي تم تغيير سياقها لأهداف شخصية وذاتية، أتت لتفهمنا كيفية اشتغال الكون؟ ليس لسبب مادي قح، مع أن فهمك الصحيح لهذه القوانين هو أسمى مما هو مادي، إنه يملئ الصدر بالطمأنينة والسلام، تتعرف عن نفسك؟ وفكرة الرب أو الإله أو ما يطلقون عليه بالهرمسية “المطلق”.
ووضعت هذه الحكمة في كتب ومحضارات وأفلام تجارية… ولكن ماهي الرسائل التي كانت الحضارات القديمة تحاول ان ترسلها إلينا من الحضارة المصرية القديمة إلى الهرمسية إلى الطاوية، والهندوسية، والبوذية. هؤلاء الناس كان لديهم معرفة وحالوا أن يبعثوا لنا شيئا بعيدا عن مصلحة قبيلة معينة أو أمة لذاتها؛ فقد كانت لغتهم كونية وتهتم بالوعي البشري ككل، وحتى في تعريف الآلهة لديهم، في الهرمس مثلا؛ الإله هو الوحدة وكل شيء جزء من الكائن الواحد الأعلى، كالرقم الواحد لا يتكاثر ولا ينقسم؛ فكل حضارة استهدفت الوعي الروحي.

بعد حديثنا عن الحكمة القديمة وأهمية إحيائها، فماذا يجب أن نقرأ فيها؟ وتلقي مفاهيمها التليدة وذات الطراز القديم، على سبيل المثال نجد في الطاوية كتاب “التاو”، وقبل الحديث عنه يجب أن نفهم ما معنى “التاو”، فهذا المصطلح يعني الطريق أو السبيل، ويقصد به السير على منوال الطبيعة، والطاوية ليست دينا ولا تتضمن أية عبادات، وإنما هي أقرب للفلسفة، تدعو لمنفعة الآخرين، والعيش بسلام وببساطة، تنسب الطاوية للفيلسوف “لاوتسه” وهي لقب صيني يعني “المعلم المسن”. ولد لاوتسه عام 507 ق.م، وكتب كتاب ” التاو تي تشنغ ” ويعني طريق وقوتها، تضمن 81 مقطوعة شعرية من الحكم والتعاليم، وأصبح أساس تعلم الطاوية وأكثر الكتب ترجمة في العالم.
تتجسد فلسفة الطاوية من خلال ” الين” و ” اليانغ” ، ويتحقق التناغم في الحياة من خلال اندماجهما، (الين) هو الظلمة والبرودة والأنوثة السالبة في الطبيعة، بينما يمثل اليانغ النهار والنور والذكورة، مرت الطاوية بمرحلتين؛ الأولى – الفلسفة الخالصة ، وفي الثانية تحولت إلى دين كردة فعل ضد الكونفشيوسية، وفي مواجهة البوذية لاحقا.
حسب الطاوية كل شخص يستطيع إيجاد طريقه الخاص، فالطرق بعدد البشر، ولا يوجد طريق واحد صحيح فقط.
حركة وجودية أخلاقية وسياسية وأبستمولوجية تدعو إلى الفضيلة واحترام الذات وتتبنى مواقف سياسية ومعرفية خاصة، وتقوم على العزلة والتواضع والرحمة والبساطة…
وفي غاية الأهمية الحديث عن كتاب ” التاو” ، قبل ذلك يجب أن نعرف أسس الطاوية ؟ كل شيء في الطاوية يبدأ بشيء اسمه « wuji » فهو عبارة عن الفراغ المطلق للفضاء، لم يكن هناك أقطاب أو الين واليانغ – فراغ واسع وشامل- ، فيعتبر « wuji » أم ” الين” و”اليانغ”، القوتان الأساسيتان، الطبيعيتان، المتعاكستان اللتان تمثلان الكون؛ أنثى وذكر، بارد ودافئ،… وهذا التتابع من هذا التدفق هو ضروري جدا لخير هذا الكوكب.
في الغرب يميلون إلى تصنيف العالم إلى أشياء جيدة وأخرى سيئة، في الطاوية عكس ذلك فهي ترى الكل الكامل، الشامل، فهي ترى أن “الين” و “اليان” يكملان بعضهما البعض و يتوازنان، والطاقة العظيمة التي تسمى «Taiji» تتدفق لتحرك الكون. في ديانة اليوم يمكن أن نسمى هذا الرب أو الإله، ولكن في الطاوية يؤمنون أن هذا هو رب الطبيعة وهو قادر على خلق الأشياء من الفراغ.
وجذير بالذكر أن الطاوية ترى أن هناك كونا داخل جسم الإنسان يخضع لنفس قوانين الطبيعة، إذن نحن أكوان صغيرة، مصنوعة من مليارات الخلايا وكل خلية بجسم الكائن البشري لها ذاكرتها الخاصة وحياتها الخاصة، وكل شيء في هذا العالم هو في تناغم جوهري مع “التاو”. يمكن القول أن هذا فهم باطني للكون.
ويجب الإشارة أن الكتاب يعلمنا مبادئ الطبيعة، وهو أيضا رسالة سياسية وكتاب حكمة للجميع، جوهر الفكر الطاوي هو أن الهدوء الفكري والتأمل والمراقبة يجعلنا نكتشف من يدعمنا ويهتم بنا ويرعانا، وهي ديناميكية الكون.
وقد ذكر في الفصل الأول من كتاب التاو عبارة “التاو الذي يمكن التحدث به ليس هو التاو الأبدي، والاسم الذي يمكن أن تسميه ليس الاسم الأبدي”، وما تعنيه العبارة أنه لا يمكننا أن نفهم التاو من خلال العقل لوحده والحواس الخمس لوحدها، بل يجب الشعور به. يمكن أن يكون الحديث عنه مفيد لكن لن يحل محل التجربة الفعلية لعيشه، ويعني الجزء الثاني من العبارة هو أن التاو يتجاوز الكلمات المنطوقة في وصفه، هو خارج الكلمات المنطوقة في التعريف. لأن ما يمكن تعريفه يصبح مقيدا والتاو يتجاوز كل هذه القيود، ولا يمكن تصنيفه.
إذن نخلص بالقول أن هذه الديانة من أقدم الديانات في التاريخ، تقوم على التأمل والعقلانية، ودراسة الإنسان والطبيعة، تعد المرجع العلمي لدول شرق آسيا ليومنا هذا، بنيت على أساسها فلسفات وعلوم ورياضات، توصل لاوتسه قبل 3000 سنة إلى عدة حقائق اكتشفها العلم الحديث، عبر التأمل في تكوين الإنسان والطبيعة، حيث توصل لنظرية بداية الوجود، “التاو العظيم” عرفه بأنه شيء بلا شكل، وجد قبل السماء والأرض صامتا و فارغا، قائم بنفسه، شأنه الدوران بلا كلل، عظمته امتداد في المكان بلا نهاية، وهذا يتوافق مع نظرية الانفجار العظيم، التي تمثل التفسير العلمي الأساسي لكيفية بدء الكون، حيث بدأ من نقطة منفردة شديدة الكثافة أخذت تتضخم خلال ال 8 مليار سنة التالية.
وكما ذكرنا مسبقا أن “لاوتسه” أول من تأمل الفراغ المطلق، فاستنتج أن الآلاف المؤلفة تنشأ في تواقت معا حركة دائبة، لكنها تعود إلى أصلها الساكن أي إلى مصير الوجود، وهذا متطابق مع نظرية الفراغ الكمومي، إن فراغ الفضاء الذي يملأ الكون هو حد ذاته الباطن الحقيقي للكون.
وبعد الحديث المختصر عن الطاوية وأهمية الحضارات القديمة، فيمكننا القول أن هناك وجود فكر شرقي قديم يستدعي الاهتمام الفلسفي في مجالات الأخلاق أو السياسة أو العلم، فالحكمة الشرقية هي بمثابة حقن للاهتزازات الروحية الخالصة في غلافنا الجوي، تقاوم جميع أشكال التلوث في هذ العالم، بدءا بالتلوث في وعيينا وأفكارنا ورغباتنا…

Exit mobile version