خواطر عن التذكير والتأنيث

هل فعلا دور الرجل في الخارج ودور المرأة في الداخل؟

قبل ظهور التخصص في المجتمعات، كان أقدم تقسيم للعمل قد نشأ بين الرجل والمرأة، بموجبه يخرج الرجال للصيد وتبقى النساء بالمساكن… كان تقسيما عفويا ناشئا عن نزوع المرأة الى الاستقرار في مكان واحد تستطيع فيه وضع حملها وإرضاع صغارها ولإكراهات بيولوجية أخرى تعرقل تنقلها الدائم، ولم يكن إكراها اجتماعيا، أو التزاما منها تجاه الزوج أو العائلة (ذلك أن العلاقات الجنسية كانت محررة وقتها)، ولم يكتسي بعده التمييزي إلا لاحقا بعد تطور المجتمع الإنساني وتعقيده…

وعلى كل فقد لعب هذا التقسيم لصالح المرأة في البداية، وإن كان قد مكن الرجل من مراكمة تاريخ تطوري كيف من خلاله قدرته على التواجد خارج البيت. فإن تعامل المرأة مع الأعشاب والنباتات واكتسبها خبرة في مجال البستنة، جعلها الطبيبة والكاهنة والساحرة والمزارعة الأولى، وبوأها ذلك مكانة ريادية قبيل بداية المجتمعات الزراعية، ظلت هذه المكانة راسخة في الثقافة والوعي الإنسانيين في صورة المرأة الأم واستمرت الثقافة في إجلال مكانة الأم بعد آلاوف السنين من قيام النظام البطريركي، وصفة المرأة الأم هاته تحمل شيئا من علاقة الإنسان القديم بالأرض والزراعة.

تقسيم الأدوار في عصرنا الراهن أكثر تجذرا، وأكثر اصطناعا، بعيد كل البعد عن العفوية الأولى، ونزداد به تمسكا حتى بعد إيجاد الحلول التكنولوجية للكثير من الإكراهات التي عانت منها امرأة العصر الحجري، يبدأ التقسيم من أولى سنوات الطفل، حتى قبل أن يكون قادرا على الكلام، والتعبير عن هويته وميوله بنفسه، من غرف الرضع وألعابهم، إلى تقسيم مهام البيت بتخصيص الداخلية منها للإناث، والخارجية للذكور، ثم ينتهي الأمر ببناء وعي أو بتكوين سياق يكون الرجال فيه أصلح لمهام دون أخرى والنساء كذلك، من دون إثبات علمي، تصلح المرأة لأن تكون مربية أطفال، أو معلمة، سكريتيرة، مضيفة، ممرضة أو طبيبة، مساعدة بيت… ويصلح الرجل لأن يكون أستاذا جامعيا، مديرا، طيارا، مهندسا ميكانيكيا، ضابط شرطة أو قائدا عسكريا… ما حذا بالنسويات إلى طرح نظرية الجندر لتفسير الاختلاف في الأدوار المقسمة بين الجنسين.

إن التقسيم الذي تفرضه التربية في البيت، لا يتعلق فقط بإجراء تنظيمي، نتفق فيه على الوظائف الموكولة لكل عنصر في البيت من أجل هيكلة النشاط فيه، بل هو إجراء ضروري لبناء الهرم الاجتماعي والتحكم في علاقات السلطة والحفاظ على الخصائص الاجتماعية الممنوحة لكلا الجنسين؛ ولذا فإن هذا التقسيم تعوزه البراءة التي غلبت على التقسيم الذي عرفه إنسان العصر الحجري.

شخصيا، في النقاشات التي تجري بيني وبين أمي بهذا الصدد، وعندما يجن جنونها إذا ما تماديت في محاجتها، تجيبني منهية النقاش:  “ما غاديش تبنتي خوك!” أي لن تفلحي في تأنيث أخيك. أتساءل أنا كيف يمكن للهوية الجنسية التي هي معطى طبيعي أن تتغير بغسل صاحبها للصحون، أو ترتيب مكان نومه على الأقل؟ هل يعني هذا أنني “تذكرت” عندما أملأ قنينات الغاز حين أكون بمفردي، وأنه “يتأنث” عندما يضطر لتحضير غذائه أثتاء إقامته الجامعية؟ ستجيب أمي بالنفي طبعا، يتأنث أخي عندما يحضر الغذاء في البيت بينما تتواجد فيه ثلاث إناث! وأنا بدوري أجيبها “حتى انا ما بغيتش نتبنت” أي لا أريد أن أؤنث أنا أيضا، فتنكر علي ذلك.

وهنا لابد من شرح نظرية الجندرة حتى يفهم القصد من ردي. تطرح نظرية الجندرة مفهوما جديدا للذكورة والأنوثة، وللاختلاف الجنسي، فالذكورة ليست صفة طبيعية فقط، يكتسبها الفرد عن طريق الوراثة وتحدد علميا بتواجد كروموسوم Y أو غيابه، الذكورة تعني القوة وتعني السلطة والهيمنة، والسادية والأنانية، وتعني التفوق، وتعني كذلك العدوانية والسيطرة على الآخرين، وتعني الأنوثة الرقة والجسد الجميل، والعاطفة والسلبية والتبعية، والمازوشية، وتعني الغيرية والاهتمام بالآخرين، الذكورة تعني العقل والروح النشطة، والأنوثة المادة والجسد السلبي، وهذه مفاهيم ثقافية لا تحددها الوراثة، حسب نظرية الجندر، لذلك تفرق النظرية بين الهوية الجنسية المحددة طبيعيا وبين المحددة اجتماعيا، وتطرح مفهوم النوع الاجتماعي الجندر، وتميز بينه وبين الجنس، لكل منا جنسه الطبيعي الذي لا يمكن تغييره أو تشكيله اجتماعيا ولا يختلف باختلاف الثقافات، وكذلك نوعه الاجتماعي الذي يتحدد عبر التربية والتنشئة الاجتماعية وعبر التاريخ الحضاري، وقد يختلف اختلافا بسيطا أو كبيرا من ثقافة إلى أخرى، ويمكن تغييره بتغيير الأدوار الاجتماعية و بتغيير الصفات التي يربطها المجتمع والحضارة بالذكورة أو الأنوثة.

إن تجرد الرجل من السمات المرتبطة ثقافيا بالرجولة المذكورة آنفا، يجرده من صفة الرجولة ولو جادت عليه الطبيعة بكروموسوم Y وبجميع الصفات التشريحية والوظيفية اللازمة ليكون ذكرا، لأن هذه الصفة تتحدد اجتماعيا. لا ينفصل النوع الاجتماعي عن الجنس بالمطلق، حسب “سيمون دي بوفوار” (وقد أشارت إلى ذلك قبل طرح مفهوم الجندر ودون استخدام للمصطلح بقولها أننا لا نولد نساء ولكننا نصبح كذلك، ويمكن اعتبارها المقولة التأسيسية للجندر) فإن النوع الاجتماعي ينشأ من إعادة تأويل المعطيات الطبيعية (الجنس الطبيعي: ذكر أم أنثى) في سياق اجتماعي، وحتى الطبيعة أحيانا لا تعترف بالمبدأين وسيلة وحيدة للاستمرار والبقاء، فالبكتيريا تتكاثر مع غياب العنصرين، لذلك لا يصح اعتبار فكرة الأنوثة والذكورة مبدأ كامنا، أو فلسفة شاملة لتفسير الكون كما ترفض الوجودية الفرنسية في مستهل كتابها -الذي يعتبر مرجعا هاما في الفلسفة النسوية- أن يتم تحديد المرأة بوضعها الطبيعي/البيولوجي فقط، لأن في ذلك تجاهلا للسمة الإنسانية المجازوة للطبيعة والقادرة على الارتقاء.

ان إصرار أمي على تذكيري في كل مرة بأن محاولتي تأنيث أخي ستبوء بالفشل، منطلق من خوفها في أن أفلح في ذلك، هي نفسها -وهي تتولى مهمة الذود عن هذه “الذكورة” المختلقة وحراستها- تعرف بأننا لا نولد ذكورا وإناثا، بل نؤنث ونذكر عن طريق العادة، وليس بالفطرة كما تدعي، وإلا فإن الفطرة ما ينقصني لتحل مشكلتي مع أعمال البيت، وتحل مشاكل النساء جميعا، ومشكلة الصراع بين الجنسين عموما. وأمي هنا لا تقصد الهوية الجنسية الطبيعية بكل تأكيد، لأنها تعلم ويعلم الجميع بأن من المستحيل العبث بها، ومن الصعب حتى طبيا وعلميا تغييرها، وتعلم أيضا أن هذه الهوية غير كافية ! إنها ليست هوية أصلا، فهي لا تقدم شيئا ولا تقرر شيئا غير دور كل كائن في إعادة إنتاج أفراد من نوعه، لذلك فلابد من هوية أخرى تتحدد ثقافيا لتعين لكل فرد دوره ومكانه وقيمته الأخلاقية، وهذه الهوية أقل صلابة من سابقتها، ويمكن إعادة تشكيلها وتكييفها مع البيئة المحيطة، بل هي تتحدد وفق البيئة المحيطة، إنها ليست معطى فوقيا ميتافيزيقيا، إذ يمكن للرجل أن يقوم بدور المرأة إذا غابت المرأة، كما يمكن للأخيرة القيام بدور الرجل في حال غيابه، وهذه المرونة مفتقرة في الهوية الجنسية الطبيعية، فلا يمكن للرجل أن يغير دوره البيولوجي متى ما وجد في بيئة تنعدم فيها النساء، لذا فهي مهددة وتجب حمايتها بتشديد الفصل بين الجنسين، الفصل في الأدوار، والاختصاصات، في المظهر، وفي الميل الجنسي (التعامل مع المثلية الجنسية يكون غالبا من منطلق التعامل معه على انه خرق لهذا الفصل)، ويتخذ هذا الفصل شكله الأوضح في مجتمعاتنا العربية في الفصل التقليدي في الأمكنة، في المساجد والصلاة يكون الفصل الشكلي الذي يتصدر فيه الرجال الصفوف الأمامية تأكيدا على الأدوار القيادية المحتكرة من طرف الرجال، في بعض البيوت ذات الطراز القديم تخصص غرفة للضيوف الرجال وغرفة أخرى للنساء حتى لو كان الضيوف أقرباء يحتفظ بهذا الفصل، فحديث الرجال ليس حديث النساء، وانشغالات الرجال لا تتقاطع مع انشغالات النساء في شيء، ويجب ألا تتطبع النساء بطبائع الرجال، أو يتطبع الرجال بطبائع النساء، وغالبا تكون غرفة الرجال أكثر فخامة، وإذا ما كان الضيف امرأة ذات أهمية فإنها تستقبل في غرفة الرجال.

ينطوي هذا الفصل على تمييز وتراتبية جنسية يسعى لتكريسها، فقيام بعض النساء بأعمال الرجال، قد يكون- في حال قبوله- مدعاة لاحترامها والاعتراف بكفاءتها ومكافأتها ل “ألف رجل”، بينما قيام الرجل بالأعمال النسوية يبعده عن أن يكون موضع احترام، ويعرضه للسخرية والانتقاص، سنجد الكثير من الأسر التي يتقاسم فيها الزوجان مثلا الأعباء المادية مناصفة، أو تعيلها الزوجة بدل الزوج، في نفس الأسر من النادر أن تجد أعمال المنزل تقسم بتساو تام بينهما، وتفسير ذلك أنه :
أولا، الأدوار التي أناطتها الحضارة بالمرأة أقل شأنا من أدوار الرجال، وهي كذلك لأنها لا توفر للمرأة موردا اقتصاديا مستقلا، ولا تساهم مساهمة مباشرة في الإنتاج وإن كانت توفر الوقت والجهد على المنتجين الرجال،
ثانيا، لأن المرأة في الذهنية الشعبية ارتبطت دائما بالنقصان، ومحاكاتها بالقيام بأعمال ارتبطت بها يعد منقصة، والحرص على التقسيم هو حرص على عدم التكافؤ وعلى ارتباط صفة النقصان بالمرأة، فأمي تخشى على أخي التأنيث بسبب دونية الأشغال المنزلية، ومع ذلك يظل الرجل مذكرا إذا اضطر إلى القيام بأدوار الأنثى في غيابها، فقط عندما يحضران معا يلزم عليهما لعب لعبة الذكر والأنثى، السيد وتابعه، الكامل والناقص، ليتحدد كل منهما عن طريق الآخر، ويصبح الذكر ذكرا لأنه ليس الآخر ولا يقوم بأدواره ولا يتصف بصفاته، والعكس، وهذا تعريف سلبي، يعرف الإنسان بما ليس عليه أكثر منه بما هو عليه، وتعريف كهذا من الواضح أنه يمس بالسوء قيمة الإنسان -بذكوره وإناثه-، فمعطى الرجولة/ الذكورة يحيد عندما تغيب المرأة ويفقد معناه، مادام الآخر الذي ستمارس عليه الرجولة غير موجود، كذلك معطى الأنوثة يفقد معناه إذا لم يوجد من يلعب معه دور الأنوثة.

النقاشات مع أمي تنتهي بالصراخ ورفع الأصوات، دون الوصول إلى نتيجة، وتكون مبارزة غرضها إلحاق هزيمة نفسية بالخصم باستهداف عيوبه وأفشاله بدل أن تكون نقاشا عقليا هادئا، وأنا التي أخرج منهزمة من معارك كهاته، وتحسم أمي الأمر بأن تقول : “لا أريد من أحد مساعدة، سأقوم بكل شيء بمفردي”، والمهم ألا يتأنث أخوك !

ما أتمنى من أمي وأمهات غيري أن يفهمنه، أننا لسنا ماكينات مزودة بتصميم وأدوات وتكنيك يتيح لها القيام بمهام محددة دون غيرها، علاوة على أننا لسنا موضوعا لإعادة استنساخ تجارب ماضية وواقع عاشته جداتنا وأجدادنا، وأنني لست أفتح معها النقاش من أجل “فلسفة فارغة” أو لاستعراض أفكار أعجبت بها، أنا فعلا أرفض أن يحدد لي أحد ما سأكون عليه، وأين أكون داخل البيت أم خارجه، وأعبر عما يزعجني ويشعرني بالإهانة قبل كل شيء،
إن الانسان بما هو قادر على الاختيار وتقرير ما يكون عليه لهو الحيوان الوحيد الذي لا يمكن تعريفه بأنه كائن منتج للحليب أو البيض، يصلح استخدامه إما في حمل الأثقال أو في حراسة البيت والأغنام، يستطيع بالإبداع والابتكار أن يخلق أشياء كثيرة مختلفة، ويقوم بأدوار مختلفة، وأن ينفلت من كل إطار يحدده أو تصنيف يقولبه، وأن يكتسب شخصية وطبيعة مركبة لها أكثر من بعد، وأن الهوية مسألة تتجاوز ما نولد عليه بالطبيعة أو ما تنشئنا مجتمعاتنا عليه، الهوية هي ما نختار أن نكون عليه، وهذه هوية شخصية تتجاوز الأعراق والأجناس والنوع، نستطيع أن نركبها بأنفسنا ونفككها ونعيد تركيبها إذا أحببنا.

مريم وفيق

طالبة هندسة، مهتمة بالفكر والثقافة والفنون، وبكل ما يهم الإنسان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *