التغذية صناعة التاريخ وصولا لزمن الكورونا

رحلة تاريخية تكشف مراحل تطور التغذية عند الحضارات المتعاقبة

تتجلى أهمية معرفة التغذية المحورية في تاريخ الإنسانية في عدد الحضارات التي تم بناؤها، الديانات التي تم نشرها، الاختراعات التي تم الكشف عنها، الأرقام التي تم تدوينها، وفي الحقيقة أيضا، الأزمات التي مرت بها حضاراتنا أيضا.

في البداية، وجود الإنسان المعاصرعلى سطح هذا الكوكب كان منذ مايقارب 300 ألف سنة، فكان همه الوحيد البقاء فيها، إذ وفي معظم هذه السنوات أصر وبشكل غير واع على إشباع رغبة الأكل وهذا ما يقارب 290 ألف سنة، حيث كانت المجتمعات -في البداية- كلها عبارة عن مجتمعات بدائية في شكل مجموعة صيادين متنقلين “Hunter Gather“، ينتقلون من مكان لآخر بحثاعن قوتهم اليومي، فلا مكان للملكية الفردية أنذاك، لدرجة أنه ومن أهم قوانين هذه المجموعات “امتلاك الشيء حمله” وإلا فلا ملك لك. فلا يوجد مكان للشيوعية هناك، إذ وحتى على مستوى الإنجاب فأطفالك ملك لك مادمت تحملهم، مما أدى وبشكل غير مباشر إلى تبني فكرة عدم الإنجاب لصعوبة حمل الأطفال ومن ثم التنقل بهم، وهذا من أهم أسباب أن تعداد البشرية لم يعرف تطورا كبيرا في وقتها.

لنمر بعدها إلى الثورة الصناعية، وتحديدا قبل 10 الآف سنة من الآن، حيث تبنى الإنسان حينها زراعة الحبوب لكونها غنية بالسعرات الحرارية أي الطاقة وكذا لسهولة تخزينها؛ هذا ما أدى إلى استقرار البشرية وبالتالي اختفاء الصيادين.
لتبدأ بعد ذلك ظهور فكرة فائض الإنتاج في المحاصيل الزراعية حيث ظهرت توازيا معها السرقات والنزاعات مما أجبر البشرعلى تكوين نظام السلطة بهدف تنظيم وتسيير أمورالفلاحة والزراعة وكذا التخزين، وبهذا ضمان استقرارالمجتمعات، فبدأت تتطور حتى أصبحت على ماهوعليه الحال في يومنا هذا.

من جهة أخرى، ومرورا بعصر النهضة، حينها كان للتوابل والبهارات باع كبير، فهذان الصنفان من الأغذية كان لهما فضل كبير في صناعة حضارات شعوب برمتها. الصحافي والكاتب البريطاني “توم ستانداج” أردف من خلال كتابه “تاريخ إنساني قابل للأكل” أن التوابل كانت لها أهمية بالغة لدرجة أن سكان أروبا أنذاك كانوا يحررون وصايا -قبل وفاتهم- تتضمن توريثها وكذا الاعتناء بها.
وهذا مايمكن ملاحظته أيضا مع الملك “ألاريك الأول” ملك القوط الغربيين بعد نهبه لروما ومحاصرتها، فقد كان من أهم شروطه 2000 كيلو ذهب، 30 ألف كيلو فضة إضافة إلى 1300 كيلو فلفل أسود نظرا لقيمة هذا الأخير ومكانته.

جدير بالذكر أن أوروبا أيضأ تأثرت بقيمة هذه التوابل حيث كانت تبعث بأكبر المستكشفين خصوصا إلى بلاد الهند، أمثال “فاسكو دا غاما” المبعوث من طرف البرتغال والذي يعتبر الشخص الذي ربط بين أوروبا وآسيا عن طريق المحيط وفتح المجال للإستعمار الأوروبي. أيضا “كريستوف كلمبوس“-ومن لايعرفه-، فبعد فشله سنة 1492م في البحث عن الهند بهدف جلب الفلفل الأسود، شاءت الأقدار أن يكتشف بدلا عنها أمريكا مما أطلق عمليات تبادل ضخمة بين القارات القديمة والقارات حديثة الاكتشاف، كتبادل الأشخاص والأمراض وبطبيعة الحال المواد الغذائية.

لتظهر بعد ذلك واحدة من أهم محطات البشرية حيث وجد الأوروبيون أمريكا مكانا مناسبا لصناعة السكر والتي ساهمت في اانتقال كثير من العمال من إفريقيا، عرفت بعد ذلك ب “تجارة العبيد عبر المحيط الأطلسي“. فرحلات اكتشاف القارات والتبادلات هذه ساهمت إلى حد كبير في ظهور الفكر الاستعماري والاحتلالي التي كانت إحدى حلقاتها الاستعمارات الفرنسية الإسبانية وكذا البرتغالية للمغرب.

ووصولا إلى عصرنا هذا، وفي زمن الكورونا، إذ أن الحجر الصحي قد سيطرعلى العالم حتى كتابة هذه الأسطر، مما أدى بشكل كبير إلى ظهور أزمات صحية واقتصادية واجتماعية عالمية وصل مداها غلق الحدود بين الدول، وهدم في رمشة عين ما قامت ببنائه حضارات قد خلت من قبل عبر مئات بل مئات الآلاف من السنين، وكان السبب فيها “شربة خفاش” مكنت من انتقال فيروس للإنسان عن طريق آكل النمل “الحرفشي” وهي النظرية السائدة حتى الآن في انتظار تأكيدها. لكن ومن منظورآخر، يبقى تخوف البشر الدائم هو عدم بقائهم على قيد الحياة وهذا يعتمد بالدرجة الأولى على التغذية، فما رأيناه من تسابق نحو الأسواق في جل بقاع العالم -خوفا من البقاء بالجوع- يوضح جليا مدى أهميتها ومدى تأثيرها.

لقد أصبح من الواضح أن الاهتمام بالأكل والتغذية يشكل عاملا مباشرا في استدامة الحضارة الإنسانية ومصلحة البشرية. فهل مازال المستقبل يخفي في طياته منعرجات حاسمة في بقاء البشر على سطح هذا الكوكب؟ أم أن الإنسان أحكم قبضته على ظواهر غيرت مجرى التاريخ وأحداثه؟

خوياني أيوب

طالب مهندس بكلية العلوم و التقنيات شعبة الصناعات الغدائية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *