كورونا حكاية مليئة بالمحاسن والأوجاع

كورونا والنظام العالمي

تعيش اليوم كل بقاع العالم أزمة صحية صعبة جراء تفشي كائن غير مرئي قاتل يدعى بفيروس كورونا المستجد، يجهل مصدره وتفاوتت روايات مسقط رأسه، فهناك من قال أنه وارد من الصين بعلة ظهوره بمدينة ووهان وهناك من يرى على أنها لعبة سياسية ماكرة لتنفرد الدول القوية باقتصاد العالم، والكثير من الإشاعات والأخبار التي لا يعرف صدقها من عدمه.
أمام كل هذه السناريوهات، خدع هذا الوباء الفتاك جميع الدول القوية منها والضعيفة، بدأ يصول ويجول حول أرجاء العالم دون موافقته، يخلخل موازينه ويبعثر حساباته السياسية والاقتصادية وكذا الاجتماعية.
خلال بداية هذا الكابوس الذي عم دول العالم، تعاملت معه شعوبها بشكل استهتاري، ولكن ومع سرعة انتشاره وتسلله لجميع القارات التي أحست بخطورته، بات لها أن الأمر حقيقة مرة وليس مزاحا، وأصبح موضوع الساعة لا حديث عمن سواه، تسارع إلى اتخاذ الأسباب للحد من انتشاره وتفادي انتقاله إلى أرضيها.

والمغرب بدوره لم يستثنى من هذه الجائحة كما أجمعت كل دول المعمور على تسميتها، فكان من البلدان الرائدة في إبداع حزمة من الإجراءات الاحترازية تفاجأ لها الكل، ظنا منه أن المغرب تلك الدويلة الضعيفة الإمكانيات لن تستطيع مجابهة هذا الوحش الخفي، لكن تعامله مع هذا الظرف أظهر العكس، الامر الذي جعل مغرب الأمس ليس هو مغرب اليوم ولن يكون هو مغرب الغد. وما يزيدنا فخرا واعتزازا هو إشادة رؤساء دول وحكومات تفوق المغرب تقدما ومواردا بمستوى الإجراءات التي سنها، تنقل تجربتنا لدولهم وتقدي بها لمواجهة هذا الوباء المميت .

فبعد ظهور أول حالة مؤكدة إصابتها بهذا الفيروس اللعين قامت السلطات العمومية بتوجيه من الملك باتخاذ قرارات صائبة وحكيمة لوقاية أمن البلاد من هذا الوباء، ووضعت نصب عينها حماية أبنائها ولا شيء غيره، حرصت على سلامتهم كحرص الأم على رضيعها، أقرت تدابير تحد من نشاط الأفراد وتحركاتهم؛ فتم إغلاق جميع المنافذ البرية والحدود الجوية والبحرية وإغلاق المطارات، وتعليق الدراسة بالمدارس والجامعات وتعليق الجلسات بالمحاكم، وإغلاق المساجد ومنع التجمعات والتظاهرات الرياضية والثقافية والفنية، وتوقيف بعض النشاطات غير الضرورية، وفرض حالة الطوارئ الصحية بسائر ربوع المملكة وحظر التجوال والخروج من المنازل إلا لضرورة ملحة وزجر كل المخالفين لها، كما تم تشكيل لجان لليقظة لتدبير الأزمة وأثارها توجت بإحداث صندوق خاص للتخفيف من تداعيتها الاقتصادية والاجتماعية.
إنه عدو قاتل، أخرس العالم بين ليلة وضحاها وكأن نهايته اقتربت، الخوف أربك أوساط العائلات إلى درجة الخوف من فقدان الأحباب، تحولت المدن المكتظة التي لا نفرقها الضوضاء والضجيج إلى مدن فارغة مكسوة بالسكينة والهدوء، توقف ضجيج المناسبات والأفراح، تحسنت جودة الهواء وانخفضت نسبة التلوث، فكانت البيئة هي الرابح الاكبر من هذا الامتحان الصعب.
إنها رسالة غير مرئية رغم قساوتها، يومياتها شيقة ومليئة بالأحداث الجميلة، أظهرت محاسن كثيرة التحم فيها المغاربة معربين عن حسهم التضامني والإنساني، ساهمت في تجديد الثقة والمصالحة بين جميع مكونات الشعب المغربي ومؤسساته وإحياء القيم والفضيلة التي ورثناها عن الأجداد؛ أبان فيها المواطنون عن فكر عال إيمانا بأن المرحلة تقتضي من الكل الانخراط والتضحية ونكران الذات.

محنة أظهرت معادن الرجال وقت الشدة ترجمها رجال ونساء الصف الأمامي، المرابطون ليل نهار، هدفهم واحد ووحيد التصدي وحماية أفراد وطنهم من هذا الوباء العين، أبطالها يا سادة أطباء وممرضون وعناصر الإدارة الترابية والأمن الوطني والدرك الملكي والقوات المساعدة والوقاية المدنية ونساء ورجال التعليم وعمال النظافة، يعملون دون كلل أو ملل بل حتى خارج ساعات العمل تاركين أبنائهم وعائلاتهم، واضعين أنفسهم رهن إشارة الوطن؛ كلنا معتزون بمجهوداتهم الجسام فلهن ولهم منا ألف تحية احترام وتقدير واعتزاز.

والجميل في يوميات كورونا تلك الجهود الجبارة من جمع تبرعات وتوزيعها على المحتاجين، التطوع لقضاء أغراض يومية للعجزة والمعوزين، ميسورون يضعون مصحاتهم وفنادقهم وحافلاتهم رهن إشارة وطنهم وفاعلون يؤطرون حملات للتوعية والتحسيس، وأغنياء يتقاسمون ثرواتهم مع باقي فئات الشعب لأن الثروة مهما تضخمت لا تبقى لها أية قيمة أمام أي تهديد، وغيرهم الكثير، لكن الأكيد هو أن ما يجمع بين كل هؤلاء هو حبهم لوطنهم وخوفهم عليه لأن أمره يعنيهم، وهذا دليل أن وطننا الحبيب لا زال بخير.
ولعل من حسنات دروس كورونا أنها ذكرتنا كم كنا مقصرين بحق النعم، فشكرا لها، فلولاها لما تعرفت العائلات على بعضها، ولما اكتشفنا بأن بلدنا يعج بكفاءات شابة تبشر بغد أفضل ومستقبل واعد جادت عقولها الذهبية بإنجازات وابتكارات صفق لها الجميع، جعلتنا نجيد استثمار التكنولوجيا ونبدع في استخدامها المعقلن، ثمراتها عديدة: تعليم عن بعد وتقاض عن بعد عقد اجتماعات عن بعد وتقديم استشارات طبية عن بعد.
أحدثت هذه الصدمة تغييرا جذريا لسلوكنا الجماعي ورفعا لمنسوب الإحساس بالمسؤولية المجتمعية بجعل كل واحد منا يتحمل مسؤوليته من موقعه، بل مسؤولين جميعا عن هذا البلد.
يقال رب ضارة نافعة، وتأخر فهم الأمور أفضل من عدم فهمما، فيوميات كورونا ما هو إلا اختبار حقيقي يحيلنا إلى استخلاص الدروس والعبر والتفكير في ترتيب الأولويات، فإذا كانت المجهودات التي أنجزت قد وصفت بالجبارة فهذا لا يمنعنا من مواصلة المسير نحو الأفضل الذي سيشكل لا محالة قفزة نوعية في تقدم المغرب، فلن يتحقق ذلك إلا بإعادة النظر في منظومتنا الصحية والتعليمية وبناء مغرب قوي بعرض سياسي جديد يسائل الماضي ويجيب عن تساؤلات الحاضر والمستقبل، فلا قيمة اليوم مع ما حدث من تعبئة ويقظة لنجدها تتبخر وتندثر مع نهاية المحنة.

وتبقى كورونا مصابا نحمد الله عليه ندرك من خلاله ضعفنا وطعم الحياة، يومياتها ودروسها مفيدة أكثر من ضررها، وخاسر جدا من لم يتعلم من تلك الدروس، ولنا اليقين أن بفضلها أكثر من ضرها، وغدنا أجمل بإذن الله.

كورونا حكاية مليئة بالمحاسن والأوجاع

Exit mobile version