تعدد “الأنا” والولادة الجديدة

دعوة لانتباهنا إلى ذواتنا

حياتنا العادية في أحسن أحوالها حياة رتيبة ومملة، معظم الوقت مليء بالنشاطات اليومية الروتينية مع تغيرات طفيفة، وينتهي يومنا على السرير معبئين بالملل والخوف والقلق، وبعدها تبدأ رحلة الضجيج الخارجة من التلفاز، ويظل هذا الأداء يتكرر مع اختلافات بسيطة يوما بعد يوم، وعلى هذا الحال نركض في سبيل حياتنا، ومن خلال هذه العادات نغدو آلات مشحونة بالأكل والشرب، وتؤدي معظم مهامها بشكل بطيء، بدون أي إلهام أو دافع حقيقي، وننهي هذه الأنشطة بالنوم لنكرر نفس النمط يوم غد..

المشكلة الأساسية باعتقادي هي أننا نائمون على سرير الوجود لكن لا نعلم أننا نحن في نوم، حيث إنه لا يعني أننا لا نقوم بأشغالنا اليومية، لكن نحن نقوم بهذه الأشياء في سبات عميق.

محمد آيت باحمو

إن الفرد مستمتع بحريته داخل سجن، من الصعب الاقتناع أن هناك ما وراء القضبان، حرية أسمى من الحرية الزائفة الذي هو يتعالى في ظلّها، وبناء على هذا القول فكل أفعالنا هي أفعال ميكانيكية لأشخاص منونين، وهذا هو السبب الذي يدفعنا للانتقال من كارثة إلى أخرى. وهل نحن نعي أننا نقوم بتدمير أنفسنا؟ من خلال الحرب والجريمة والعنف، بطبع لا. لأن الإنسان ببساطة لا يعرف ما يفعله، ولكن هل هذا شيء ميؤوس منه؟

لو اعتمدنا على تجاربنا الشخصية الذاتية للتحرر، تصبح إمكانية للاستيقاظ، ويمكن التحول من إنسان ميكانيكي إلى فرد حقيقي يدير حياته بشكل واع، وبهذه الحالة لن يكون الحب والذكاء والسلام والسعادة مجرد كلمات أو نظريات، بل ستغدو هذه الكلمات ”أنت ، فقط إن كنت صادقا أو صادقة مع نفسك، وهذا الذي سيفتح بابا لترى منه الفرق بين الشخص الذي أنت تتخيله عن نفسك ومن أنت بالفعل، قد تصدم في البداية لما تتعرف على أشياء جديدة عنك، لكن هذا ليس هو الأهم، لأنك ستقوم بأشياء لم يتجرأ أي كائن بشري على فعله.

قد بدأتَ بعملية تغيير داخلي لوجودك، الإنسان لا يمتلك “أنا” واحدة ليتعامل بها مع نفسه وغيره، هناك العشرات من “الأنايات” عند كل واحد فينا، وكل أنا تدّعي أنها هي الأصلية، ونحن باستمرار نتحول من أنا إلى أنا حسب الحاجة؛ إن تعدد الأنايات بداخل الإنسان، يشرح الكثير من الألغاز عن طبيعتنا البشرية، –على سبيل المثال– عندما نتخلى عن عادة مرغوب فيها، وفي اليوم التالي نعيد تكررها، لماذا؟ لأنها ”أنا” أخرى استلمت الموضوع، وهذه الأنا تحب هذه العادة ولا تمتلك أي نية للتخلي عنها، أو يمكن هناك امرأة فكرت في التوقف عن العبث في حياتها، وقررت أن تجد ذاتها الحقيقية، في مطالعة كتاب أو كتابين، أوحضور محاضرات…؛ ولكن فجأة تفقد كل الاهتمام وتعود إلى سلوكياتها المهزومة، لأن ”أنا” مختلفة كليا لا تريد لها أن تستيقظ، وبدأت تأخذ المسؤولية ويتولد صراع جديد على ماذا تريد وماذا تحتاجه بالحق؟

وهنا، تجد أنك غارق في الدوامة نفسها، ولما تتخطى هذه المرحلة تسأل نفسك…هل أنا راض بهذا؟ بالطبع لا! يمكن أن تكون راضيا على ذلك لفترة من الوقت ولكن في الحقيقة ليس هذا ما تريده حقا. حينما لا نعرف ماذا نريد؟ يكون هذا راجع لسببين؛ أولهما، ما نريده فهو موجود لدينا، ويمكن معرفة أنفسنا بهذا النمط، وهذا الإيقاع المتناغم الذي نعيش فيه، خاصة أن الثقافة التي أنت فيها وترعرعت في أحضانها، لم تشرح لك كيف تكون إنسانا حقيقيا، يمكن أنها شرحت لنا كيف تكون مهندس أو دكتور أو مدير شركة، لكن أن تعطيك الحرية في أن تكتشف نفسك بنفسك، هذا نوع من التمرد والخطر والجنون! إذا، ما هو الحل لهذه الحالة المتناقضة؟

يجب أن تكون على دراية بتعدد هذه الأنايات، راقب كيف هذه الأنا تأخذ مكان أنا ثانية، وانتبه كيف أنها تمثل شخصيتك الحقيقية، وأن كل واحده تكونت من آراء مستعارة، ووجهات نظر زائفة، هذه المراقبة الذاتية تضعف قبضة أي أنا تلاحظ أنها بدأت تتكون وتظهر وفي نهاية ستجد من أنت ومن أنت؟ وبالفعل، هذه تسمى: الولادة الجديدة والحقيقية لذاتك، وهنا تكون التغيرات تعمل لصالحك، الشعور بالوحدة يختفي، لأن الإنسان المستيقظ يسكن في عالم ذاته الحقيقي، والوحدة مستحيلة في هذه الحالة.

وأخيرا، يصير هناك نوع جديد من تقبل الذات وظهور الحكمة في العلاقات الإنسانية والاجتماعية، لأن في هذه الولادة الجديدة يبصر إلى الشراكات بحياته وبطرية مختلفة تماما، وبحكمة يختار أناس افكارها ناضجة وآرائها متوازنة، و أي فتاة تفكر في الزواج ستبحث عن الإنسان الناضج والواعي والواضح، ليس فقط على الوسيم والجذاب.. وفي هذا السبيل سنضع المال في مكانه الصحيح ، وطاقتنا الجنسية في مكانها الأمثل، والدين في مكانه السليم، والسعادة في مكانها الجميل، ولن نتطلع إلى المشاكل على أنها مشاكل وعقبات، بل كل مشكلة تضيف قطعة جديدة للأحجية واللغز، حتى حواسنا الخمس ستشتغل بكفاءة، نبصر بوضوح ونسمع بوضوح، سنصير كالكأس المفتوح لكل شيء من الأعلى ومغلق لكل شيء من الأسفل، تدفق مستمر من الهدوء والبهجة والاسترخاء، وبعدها لن تضطر إلى مقاومة الحياة وستترك الحياة تحدث لوحدها وبالطريقة التي تريده هي، دون أي عناد أو اعتراض..

هنا، يحدث استمتاع بتدفق الحياة وطاقتها بسهولة، وستكتشف أن هذه الحياة هي التي تحملك وليس أنت الذي تحملها على ظهرك، وستكون هناك تلميحات على أنك في مرحلة الاستيقاظ ووعي للأنا، الحقيقية لما تبصر أن الأسود يعني الأبيض وأن الأنا تعني الغير، والحياة تعني الموت، والموت يعني الحياة.

لما تشعر أنه لا بد من التفاعل مع أشخاص من كل أنحاء العالم، يمتلكون تفكيرا مماثل لتفكيرك يمكن لإنشاء نظام فكري جديد يكون هو الخلاص للبشرية ، ويربط مصائرنا جميعا، ثم يتجاوز الانقسامات الوطنية والأيديولوجية، وتشعر بأنه من أولوياتك هو أن تكون جزء من هذه الأسرة البشرية على هذه الأرض.

تعدد “الأنايات” والولادة الجديدة

محمد ايت اباحمو

كاتب، و طالب بالمدرسة العليا للأساتذة تخصص فلسفة ، 20 سنة، و مهتم بقضايا العصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *