غرفة مكتئب

سياسة الحياة هي أن لا تجادلها

سافر معي لعالم المكتئبين، لذلك العالم الغريب الأطوار الذي يتبرأ منه الجميع رغم أن غالبيتهم محشورون فيه رغما عن أنفسهم، رغما عن إرادتهم ورغما عن ما يرغمون أنفسهم بتصديقه. ولكل مكتئب ضائع تائه غارق في الاكتئاب، دعني بذلك أروي ما تحس به نفسك وتسري فيه أوصالك…

أنت في غرفة مظلمة، تحدها قبور، أنت وهم بيادق تسير في جميع الاتجاهات، تسخر منهم لأنهم يحاولون السير وتفادي الجوانب لكي لا يسقطوا، بينما أنت تتخيل نفسك الذكي بينهم، كأنك تملك عدسة تستطيع بها رؤية تحركاتهم باستمرار ومراقبة كل تنفساتهم. وبينما حلمهم أن يتجولوا داخل الغرفة ويستمتعوا بجوهرها، تحلم أنت أن لا تكبد نفسك كل ذاك العناء … فتحبذ الطريق المختصر نحو النهاية.

وأنت في طريقك الشديد السواد، مطأطئ الرأس، قد تصادف من يروي لك تلك الكلمات التي ألفنا سماعها في دروس التنمية البشرية التي يتغنون بها، أو من يدعوك للاستمتاع بالحياة الفانية، لكنك أيها الذكي المكار تأبى ذلك لأن عدستك السحرية تستطيع تنبؤ علم الغيب ومخيلتك الواسعة تظل توشوش “هل سيجنبك هذا الشيء الموت؟ طبعا لا”، فتواصل طريقك… طريقك نحو الهاوية…

عالمك الوحيد الذي رسمته واستسلمت له، دليل على أنك ضعيف أمام أحاسيسك لا على ذكائك. تتوه بين كلمات متحدثك، تحاول جاهدا تشفير أقواله، تريد استكشاف مخيلته، تتساءل كيف الإيمان بالحياة، وكيف السبيل نحو السعادة، تتساءل كيف يتمكن الآخرون من نسيان الموت، كيف ينتظرون الأفضل من الغد، كيف يعجبون بتلك الأغاني التي تترنم بالأمل وكثرة التراهات؛ وأنت في خضم هذه الرحلة تحاول جاهدا استرجاع نفسك، لكن لن تستطيع، وحتى إن استطعت ستظل تقول “هل أنا الغبي أم هم…؟”.

أيها الذكي المكتئب الخائر القوى، ذاك المجنون المتفائل علمته الحياة أن يتأقلم مع تراهاتها وفوضويتها، سياسة الحياة هي أن لا تجادلها، لو خلت نفسك ذكيا ستظهرك مجنونا وتخسر ما لك وما عليك وما حواليك، ولو تغابيت كنت محظوظا وفزت بما لك وما عليك وما حواليك.

غرفة مكتئب

فاطمة بوشويشة

اعمل استاذة علوم فيزيائية، مهتمة بالقراءة و الأخبار السياسية